الباب الأول:البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية
مقدمة الباب الأول
ارتبط مصير البطريركية الأورشليمية والوجود المسيحي في فلسطين بالأحداث السياسية· ففي العصر البيزنطي كانت الكنيسة الأورشليمية يونانية المظهر، ولكنها لم تتخلّ عن جذورها الشرقية· وفي الفتح العربي تعربت إكليروساً وشعباً ولغة· وفي العصر الصليبي حلّ النفور بين أبناء الكنيستين الشرقية والغربية، وغدا هناك كيانان بطريركيان: لاتيني صليبي وآخر أرثوذكسي نشأ في القسطنطينية، والكيان الأرثوذكسي غير متصل بالكرسي الرسولي بل معادٍ لما هو غربي· وبعد نهاية العصر الصليبي عاد البطاركة العرب المنتخبون من الإكليروس الوطني لرعاية القطيع المسيحي الصغير في فلسطين، الذي صار على مر العصور أقلية ضعيفة، بعد أن كان أكثرية ساحقة في العصر البيزنطي· وقعت البطريركيات الشرقية (الإسكندرية والأنطاكية والأورشليمية) مبكراً تحت الحكم العربي الإسلامي في الجيل السابع الميلادي، وتبعتها البطريركية المسكونية القسطنطينية، ففتحها المسلمون العثمانيون سنة 1453م· والبطريركية الأورشليمية أضعف هذه البطريركيات وأقلها عدداً وأصغرها مساحة
فتح العثمانيون فلسطين سنة 1516م، فحلّت فيها سياسياً السيادة التركية مكان المملوكية، ودينياً السيادة اليونانية بدل العربية· فعلى أثر الفتح العثماني للقسطنطينية صار البطريرك القسطنطيني رئيس الملّة الأرثوذكسية في السلطنة· ونظر إليه العثمانيون، الذين استخدموا نظام الملّة لحكم الشعوب غير الإسلامية، على أنه ممثل جميع الأرثوذكس في السلطنة، فسيطرت البطريركية القسطنطينية ومن خلالها الإكليروس اليوناني على جميع البطريركيات الأرثوذكسية الخاضعة للأستانة· فتمت يَوْنَنَة(1) البطريركية الأورشليمية في الجيل السادس عشر الميلادي، وحلّ البطاركة اليونان مكان العرب في الأبرشية الأورشليمية· فاعتلى جرمانوس أحد رجال بطريركية القسطنطينية المسكونية العرش الأورشليمي، خليفة لآخر بطريرك عربي هو دروثاوس - عطا الله، "فليس من قبيل المصادفة أن يكون جرمانوس اليوناني خليفة البطريرك عطا الله العربي"(2) .
وتشير المؤلفات العربية إلى أن جرمانوس يوناني أتقن اللغة العربية:"وجاء إلى القدس الشريف فيما بين زوار كثيرين شاب من الموره اسمه جرمانوس بعد أن كان قد قضى عدة سنوات في مصر وتعلم العربية فيها إلى درجة لم يشتبه فيه معها أنه يوناني الأصل، فاحتّك بالرهبان وبرهن على مقدرته وحذاقته، فسامه البطريرك عطا الله شماساً وترقى في درجات الإكليروس حتى تسنّم عرش البطريركية سنة 1534م عند استقالة البطريرك عطا الله المذكور"(3)· ورشّح جرمانوس لمنصبه الجديد إرميا الأول بطريرك القسطنطينية، فزكّاه لدى الحكام العثمانيين لتسلّم المنصب البطريركي الأورشليمي(4)·
ويدعو الأرثوذكس العرب هذه الحقبة من تاريخ البطريركية الأورشليمية (العصر العثماني) بـ >دور الاغتصاب<(5)، أي اغتصاب اليونانيين المنصب البطريركي من العرب· ويـروي قـزاقـيا خـبر وصـول الإكلـيروس الـيونـاني إلـى القدس ويصفـهم: "بالـضيوف الكـرام"(6)· ومـن هـؤلاء الضيـوف يـواكـيم وجـرمـانـوس، فعُيّنَ الأول بـطريـركاً على الإسكندرية والثاني على القدس·
ولكن ما هو الأثر الذي خلّفه جرمانوس في الكنيسة الأورشليمية؟: "فهو أول بطاركة اليونان في القدس الذي طوّر بتصميم ودهاء عظيمين نظام الكنيسة الأورشليمية وطبيعتها، وجعلها نهائياً كياناً يونانياً"(7)· والخطوات العملية التي اتّبعها جرمانوس في إحكام سيطرته على البطريركية هي: "الاستئثار بالمراكز الكنسية العليا والاستيلاء على الأماكن المقدسة من كنائس وأديرة وأملاك وتسليمها غنيمة باردة لبني جنسه اليونان"(8)· وصارت تُعرف جماعة الرهبان التي أوجدها جرمانوس وسلّمها مقاليد الأمور في الكنيسة الأورشليمية بأخوية القبر المقدس· وحكم جرمانوس البطريركية الأورشليمية مدة 45 سنة (1534 - 1579)، استطاع خلالها تمكين العنصر اليوناني في البطريركية من تنحية العرب: "حصر الوظيفة الأسقفية في العنصر اليوناني، لأنّْه كلّما توفي أسقف عربي، يَسِمُ مكانه أسقفاً يونانياً ··· حتى أصبح المطارنة في أورشليم من اليونان في مدة بطريركية جرمانوس الطويلة، وقبل وفاته وضع قانوناً منعكساً لم يزل مرعي الإجراء حتى الآن، وهو أن لا يصير سيامة أسقف إلاّ من اليونان"(9)·
يقدم الكُتّاب العرب واليونان معلومات متناقضة حول قضية جرمانوس وسيطرة أخوية القبر المقدس اليونانية على البطريركية الأورشليمية· ومن الصعب جداً الوصول إلى الوثائق القديمة في مكتبة البطريركية الأرثوذكسية في القدس· ولا شك أن تقريري برترام (1921و 1925م)، وبرترام هو قاضي بريطاني عيّنته سُلطات الانتداب البريطاني للتحقيق في الخلاف الذي نشأ بين البطريرك ذميانوس والسنودس (10) وبين العرب واليونان، أقرب إلى الموضوعية التاريخية· إذ إنه اطّلع على عدة وثائق، وقابل العديد من الشخصيات العربية واليونانية، وعرض رأي الطرفين متوخياً الموضوعية، كما يعطي أحياناً رأيه الخاص، ولذا يمكننا الاعتماد على رأي برترام للوصول إلى نتيجة، وإلى حد ما من الموضوعية في القضايا التي تثيرها هذه الدراسة، وإلاّ دار البحث في دائرة مغلقة· فيعلق برترام على قضية جرمانوس بقوله: "لا مجال للريب في أن بطريركية جرمانوس مفرق طرق في تاريخ الكنيسة من حيث الشأن الذي يعنينا في هذا المقام· وأنّ غريغوريوس لاماس - الذي نشر تاريخاً لأورشليم في سنة 1862م - ليقول عن هذا البطريرك أنه كان مبتدأ "تعاقب البطاركة اليونان المجيد على هذا العرش تعاقباً لم ينصرم حبله حتى اليوم"(11)· ويرى مؤلف آخر أنّ مجيء اليونان إلى فلسطين، "تمّ تحت شعار الأرثوذكسية"(12)· أي أنّ العرب قبلوا بجرمانوس بطريركاً عليهم لكونه أرثوذكسياً مثلهم· ونتيجة يَوْنَنَة البطريركية تحوّل كثير من الأرثوذكس إلى الطائفة اللاتينية وخصوصاً في القرن التاسع عشر، وقام الصراع بين اللاتين واليونان على ملكية الأماكن المقدسة، والطرفان غريبان عن البلاد، ولو ظلت السلطة بيد الوطنيين لما تجاسر اللاتين على المطالبة بحقوق في الأماكن المقدسة(13)· علماً بأن للكنيسة الكاثوليكية، ممثلة بالآباء الفرنسيسيين، حقوقاً ثابتة في الأماكن المقدسة منذ القرن الرابع عشر في عهد المماليك على أثر انتهاء الحروب الصليبية·
يدعو المؤرخون اليونان العرب الفلسطينيين >بالمتعربين<(14) (15)، حسب النظرية القائلة بأن أرثوذكس فلسطين أصلاً من الجنس اليوناني، الذي فقد قوميته بمرور الزمن وتعرّب· ولا ينكر بعض المؤرخين اليونان أن بطاركة القدس قبل الفتح العثماني من هؤلاء المتعربين، ولكن هؤلاء المتعربين هم أصلاً يونان، لذا لم تنقطع سلسلة البطاركة اليونان على الكرسي الأورشليمي حتى في فترة استلام المتعربين السلطة البطريركية· ويجيب فريد كسّاب وهو معاصر لأحداث الصراع العربي اليوناني ويفترض صحة النظرية اليونانية:" ينتمي الانسان إلى عرق ما بإرادته وعواطفه أكثر ما ينتمي إليه بدمه"(16)· فهنا يقول برترام: إن بطاركة فلسطين قبل الفتح كانوا عرباً وليسوا متعربين أو أربوفون ومنهم عطا الله (1505 - 1553م)، الذي تسميه المصادر اليونانية بدروثاوس، أي عطا الله بالعربية: "وما يبدو من سبب للشك في أن بطريركاً يحمل في ذلك اسماً عربياً كان هو نفسه من سلالة عربية"(17)·
وبقي خلفاء جرمانوس حتى يومنا هذا من العنصر اليوناني، وقد دبّر جرمانوس أن يكون خليفته يونانيا: "وكان من مغبة أحد أسفاره، أنه عاد ومعه ابن أخيه (أو أخته) صفرونيوس، فأدخله الدير وسماه في الآخر خلفاً له· ففي سنة 1579 وقد ادركته الشيخوخة وعانى في البطريركية ما عانى، رأى أن يعتزل المنصب وطلب أن يَحلّ محله فيه ابن أخته" (18) .
ويرى العرب أن تنصيب صفرونيوس تمّ بالدهاء والحيلة والغش(19)· والصراع العربي اليوناني الذي ترقى جذوره إلى عصر جرمانوس، لم يكن ملموساً وواضحاً في البداية، ولم يتخذ الشكل المتفجر الذي وصل إليه إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين: "ومما يُنتبه إليه أيضا في هذا المقام استحكام الوئام بين عناصر الكنيسة جمعاء· فما من دليل على أن جرمانوس عُدّ في ما أتاه مستحدثاً دولة يونانية جديدة من البطاركة· وقد يبدو أنه لم يكن هناك فرق يُؤنس بين بطريرك يجيء من اغريقية (بلاد اليونان) وآخر مثل دروثاوس من أرومة وطنية"(20)· ولكن تدريجاً تمت يَوْنَنَة البطريركية، وصار هناك فرق بين عربي ويوناني: "غير انه لا مجال للشك في أن البطريركية في بحر الأربعة قرون الأخيرة بتطور تدريجي لم يكن منه بدّ ولا مَنْدُوحَة، أصبحت أكثر يونانية في صيغتها ثم أكثر· وهي إنما في تضاعيف هذه المدة اتخذت لها الشكل الذي نعرفها به اليوم، من حيث كونها معهداً مطرد الكيان فعالاً· والبطريركية على ما نعهدها الان يصح القول ببدء تاريخها من زمن جرمانوس، فإنها منذ أوائل سني بطريركيته وهي مشتبكة بمطرد المجاهدات والمناضلات مع اللاتين التي لم ينقطع دابرها حتى ما بعد حرب القرم"(21)·
وهكذا تمت يَوْنَنَة البطريركية بأخوية القبر المقدس، التي منها يُنتخب البطريرك والأساقفة وهي التي تتولى المزارات، "أقدم معاهد البطريركية وأوفاها طاقة ومقدوراً رئيسها البطريرك نفسه ووظيفتها الرئيسية القيام بصفة المتولى على المزارات الرئيسية"(22)· لـقـد غـدت الأخوية في القرون الاربعة الأخيرة أكثر يونانية وتكاد تكون يونانية صرفاً، وإن كـان بـعض اعضائها عرباً، واعـتلــى بعضـهم العـرش البـطـريـركـي، كصفرونيوس (1771 - 1775) وانثيموس (1788 - 1808)· ويشير المؤرخون اليونان إلى أن جرمانوس ليس مؤسس الأخوية بل إنه أعاد تنظيمها فقط· والأخوية ما هي إلاّ جماعة الرهبان القديمة التي كانت موجودة في الأماكن المقدسة منذ تأسيسها، وتدعى جماعة رهبان >Spoudaei< ومهمتها الأساسية الاشراف على الأماكن المقدسة وإرشاد الحجاج· والـ >Spoudaei< هم مؤسسو أخوية القبر المقدس(23)· قد تكون هناك علاقة ما بين جماعة الرهبان القديمة والأخوية، ولكن لا يجوز عدّها علاقة تأسيسية· فما من شك أن جرمانوس هو المؤسّس الحقيقي للأخوية التي تحكم الأبرشية الأورشليمية اليوم· وتضم الأخـوية بين أعـضائها أسـاقفة برتبـة مـتروبوليت(24)، وأســاقفة وأرشمندريتية(25) وشمامسة ورهبان، والبطريرك رئيسها، ومنها يتشكّل السنودس· ودير الأخوية المـركـزي
بابا دوبولس لا يجد ما يقوله حول الحياة الروحية والنشاط الرسولي والانتاج الفكري في الكنيسة الأرثوذكسية(37)· ويدور تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في القرن التاسع عشر
يقع بجانب البطريركية، ولها أديار تابعة كدير مارسابا والقرنطل ووادي الكلت، وتمتلك ثمانية عشر ديراً في القدس يسكنها الرهبان وأبناء الطائفة الأرثوذكسية· ولها أيضاً تسعة عشر ديراً خارج فلسطين في إسطنبول واثينا وكريت ··· وهي بمنزلة وكالات للبطريركية· ومن خصائص الأخوية الفريدة التي تتميز بها عن الرهبنات الغربية الكاثوليكية، أن الرهبان يتقاضون راتباً من البطريركية (12 - 75 جنيها سنة 1925)، ويتقلدون الوظائف الكنسية ويمتلكون العقارات ويستأجرونها ويستثمرونها، وهم غير ملزمين بالحياة الجماعية ويعيش بعضهم مع ذويه· وجميع أفراد الأخوية من اليونان، وعددهم 021، ما عدا عضواً واحداً بلغارياً (سنة 1925)(26)· ويلخص موشوبولوس (Moshopoulos) أهم امتيازات الأخوية وحقوقها في ثلاثة عشر بنداً هي (27):
1 - يتبع القبر المقدس وجميع ملحقاته، وسائر مزارات فلسطين وأديارها، وكل المؤسسات الخيرية في فلسطين وخارجها للبطريرك رئيس الأخوية، وهي جميعها ملك للأمة اليونانية(28)·
2 - يُكوّن القبر المقدس وملحقاته وحدة رهبانية ديرية متماسكة، تتمتع بنوع من الاستقلال الإداري لاستثمار أموالها بإشراف البطريرك رئيسها·
3 - وظيفة الإكليروس الرهباني الذي يكوّن أخوية القبر المقدس خدمة الأماكن المقدسة وحراستها· وتحكم الأخوية قوانين الجماعات الرهبانية وقرارات بطاركة المدينة المقدسة ومجمعهم·
4 - بما أن القبر المقدس وتوابعه يتبع للبطريرك الأورشليمي اليوناني فإنه مُلك الأمة اليونانية، ومن هذه الأمة تختار الأخوية رهبانها حسب أنظمتها وقوانينها·
5 - يُنتخب البطريرك اليوناني من بين أعضاء الأخوية، ويساعده في حكم الكنيسة السنودس، الذي هو مجلس كنسي مكون من متروبوليتيين وأساقفة وأرشمندريتية ينتمون إلى أخوية القبر المقدس·
6 - يخضع جميع الأرثوذكس المقيمين بصورة دائمة أو مؤقتة في البطريركية الأورشليمية لسُلطة بطريرك القدس اليوناني·
7 - إن النذور والتقدمات والهبات الموقوفة للقبر المقدس والمزارات والأديار والأماكن المقدسة الأخرى هي مُلك للأخوية اليونانية·
8 - يحقّ لبطريرك القدس اليوناني طلب وقبول النذور والتقدمات والهبات لحساب الأماكن المقدسة من المسيحيين الأرثوذكس في جميع أنحاء العالم·
9 - تتمتع أخوية القبر المقدس باستقلال داخلي وإدارة ذاتية بما يخص حياتها الداخلية، استناداً إلى ما جاء في القوانين المكتوبة وغير المكتوبة والعادات والتقاليد القديمة المرعية منذ القدم، والتي اكتسبت صفة قانونية بمرور الزمن وممارستها خلال عدة قرون·
10 - للأخوية الحق في أن ترث أموال أعضائها المتوفين المنقولة وغير المنقولة، ويمنع كل تدخّل من قِبل أهل الرهبان أو أي شخص آخر·
11 - للأخوية حقّ الملكية الكامل على أموالها في فلسطين وخارجها، ويمكنها التصرف بها بكامل حريتها ومطلق رغبتها·
12 - ممتلكات الأخوية معفاة من سائر أنواع الضرائب، وكل ما تستورده مُعفَى من الجمارك·
13 - تقدم الأخوية في حدود إمكاناتها ومواردها وبكامل حريتها وبدافع من الالتزام الأدبي فقط، الأموال الضرورية لترميم الكنائس القائمة وبناء أخرى جديدة(29)·
والجدير بالذكر أنه ليس في البطريركية الأورشليمية قانون خاص مدوّن، بل اتّبع البطاركة في إدارتها القوانين العامة المرعية في البطريركيات الشرقية، ومجموعة من العادات والتقاليد الخاصة في البطريركية الأورشليمية· وصدر أول نظام أساسي للبطريركية سنة 1875، وظل قائماً حتى عام 1958·
تملك البطريركية الأرثوذكسية أوقافاً عديدة في فلسطين وخارجها وهي أغنى المؤسسات الكنسية في فلسطين، ويعود تاريخ اوقاف البطريركية خارج فلسطين لعام 1523(30)· وتمتد صلاحيات البطريرك الأورشليمي على حدود فلسطين والأردن وجزء من شبه جزيرة سيناء· وفي البطريركية الأورشليمية سبع أبرشيات، ولكنها ليست أبرشيات بالمعنى الحصري، لأن أساقفتها لا يقيمون فيها، ما عدا أسقف الناصرة وعكا، ويحكمها البطريرك مباشرة· ويرأس هذه الأبرشيات متروبوليتية ورؤساء أساقفة وأساقفة فخريون(31)، ويقيم أساقفة آخرون أو أرشمندريتية في ممتلكات البطريركية في الخارج· وأسقف سيناء مستقل، ينتخبه رهبان دير القديسة كاترينا، ويثبته البطريرك ويمنحه الرسامة، وَيذكُر اسم البطريرك في القداس الإلهي، ولكنه يتمتع باستقلاله في إدارة الدير(23)·
في القرن التاسع عشر اعتلى عرش البطريركية الأورشليمية تسعة بطاركة· وللبطريرك الأرثوذكسي رتبة عظيمة لدى الحكام والشعب، "وفي الحكومة التركية كانت أعظم مرتبة من الإكرام تُسدى إلى البطريرك الأرثوذكسي، الذي على ما أعلمنا له التقدم على جميع العثمانيين ما خلا المتصرف"(33)· وتغلب على البطريركية نزعة الملكية الفردية(34)، وللبطريرك "سُلطة مالية غير محدودة"(35) ويتألف السنودس المقدس حسب قانون البطريركية الأساسي لسنة 1875 من ستة أساقفة وتسعة أرشمندريتية والعدد قابل للزيادة أو النقصان حسب الحاجة، "ومع أن البطريرك اسمياً تحت ولاية المجمع الدستورية، فإنه في الواقع ألِفَ أن يفوز في انفاذ رغائبه"(36)· ويحمل جميع أعضاء الإكليروس الأورشليمي عرباً ويوناناً الجنسية العثمانية·
وينتمي معظم أتباع الكرسي الأورشليمي إلى العِرق العربي، ما عدا رهبان أخوية القبر المقدس وبعض العائلات والتجار والحرفيين اليونان· وظلت الرعية العربية طوال العصر العثماني على هامش الحياة الكنسية الأرثوذكسية: فالمدارس نادرة ، وإنْ وُجدت فمتدنية المستوى، والكهنة العرب غير مثقفين، والتحدي الكبير الذي واجه الأرثوذكس في القرن الماضي، النمو المطرد في الإرساليات الكاثوليكية والبروتستنتية على حساب الأرثوذكسية· ويعـلق موسية (Musset) عـلى كتاب بابادوبولوس (Papadopoulos): >Historia tes Ekklesias Iorosalimon< قائلا: إن بابادوبولس لا يجد ما يقوله حول الحياة الروحية والنشاط الرسولي والإنتاج الفكري في الكنيسة الأرثوذكسية(37)· ويدور تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في القرن التاسع عشر حول عدة محاور: الصراع مع اللاتين على الأماكن المقدسة، والصراع مع اللاتين والبروتستنت حول تسرّب اتباع الكنيسة الأرثوذكسية إلى هاتين الكنيستين، ولم تكن إجراءات الكنيسة الأرثوذكسية فاعلة لمنع التسرّب، والصراع بين العرب واليونان والصراع بين اليونان والروس·
وكانت ضحية هذا الصراع المصلحة العامة للكنيسة الأرثوذكسية والرعية العربية· ويقدر الراهب الأرثوذكسي انثيموس سنة 1838 عدد مؤمني الكنيسة الأرثوذكسية بـ 15690 نسمة· والمراكز الأرثوذكسية الكبرى هي: القدس (600 نسمة) وبيت جالا (1000 نسمة) ورام الله (1000 نسمة) وجفنة (2000 نسمة) وكفر ياسيف (1500 نسمة) والناصرة (1000 نسمة) والسلط (400 نسمة)، والسلط هي الموقع الوحيد في الأردن الذي يذكر فيه انثيموس مؤمنين أرثوذكساً(38)· والإحصائية الثانية سنة 1904 ومصدرها البطريركية الأرثوذكسية وتُقدّر عدد المؤمنين بـ 49558 نسمة· ويقدر شارون (Charon) أن الرقم الأقرب إلى الواقع هو 30000 نسمة· أما أرثوذكس شرق الأردن فعددهم 9757 نسمة، والبقية في فلسطين· ويقطن الأرثوذكس في الأردن المواقع التالية: عجلون والحصن وسوف وعنجرة والسلط ورميمين والفحيص ومادبا وماعين والكرك وإربد والطيبة وكفرابيل وشطنا (39)· ومن غير المعقول أن يكون المسيحيون الأرثوذكس في السلط فقط حسب احصائية انثيموس، فلا شك أنه أهمل ذكر المواقع الأخرى· ويُقدّر مؤلف آخر عدد الأرثوذكس في مطلع القرن التاسع عشر بـ 000ر30 نسمة، وتراجع عددهم إلى 000ر25 نسمة، لتحول كثير منهم إلى الكثلكة أو البروتستنتية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(40)، وعلى الرغم من ذلك شكّل الأرثوذكس أكبر طائفة موازنة بالطوائف الاخرى·
يدور تاريخ الكنيسة الأورشليمية الأرثوذكسية في القرن التاسع عشر حول: تحرر الكنيسة الأورشليمية من التبعية للبطريركية القسطنطينية، والنفوذ الروسي، والعلائق الروسية اليونانية واليونانية العربية، وحول القانون الأساسي للبطريركية الأورشليمية الذي صدر سنة 1875· وقد توترت العلائق مراراً بين البطريرك والسنودس واعضاء الأخوية، ووصل إلى حد القطيعة بين الطرفين وعزل البطاركة من مناصبهم·
ينقسم هذا الباب الذي يبحث في تاريخ البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية إلى أربعة فصول هي:
الفصل الأول: استقلال البطريركية الأورشليمية والعلائق الكنسية الروسية الفلسطينية، 1800 - 1872·
الفصل الثاني: التشريع في البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسية وأحداث السنوات 1873 - 1897 .
الفصل الثالث: الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، 1882 - 1917·
الفصل الرابع: القضية العربية الأرثوذكسية في عصر البطريرك ذاميانوس، 1897-1931·
الفصل الأول
استقلال البطريركية الأورشليمية الأرثوذكسيّة والعلائق
الكنسية الروسية الفلسطينية، 1800 - 1872
مقـدمـة
إنّ تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، يُعّد استمراراً لتاريخها في العصور العثمانية السابقة، فقد اعتلى العرش البطريركي في هذه الفترة ثلاثة بطاركة تمّ انتخابهم في القسطنطينية· ولأول مرة انْتُخِبَ البطريرك الأرثوذكسي في القدس سنة 1845، وهو كيرلّس الثاني· وبرز الوجود الروسي في فلسطين من خلال الحجاج والقنصلية والإرسالية الروسية· وقد أدّى تعاطف البطريرك كيرلّس مع الكنيسة البلغارية، التي طالبت باستقلالها عن البطريرك القسطنطيني المسكوني، إلى أن يعزل السنودس البطريرك كيرلّس من منصبه· وقد ساند الروس البلغار في قضيتهم وكيرلّس في موقفه· وأبرز الشخصيات الروسية في هذه الحقبة الارشمندريت بروفيريوس اوسبنسكي (Profiri Uspenski)·
ا - البطاركة: انثيموس وبوليكاربوس واثناسيوس الخامس:
اعتلى البطريرك انثيموس العرش البطريركي الأورشليمي سنة 1788، وهو عربي من أنطاكية(1)، وقيل أنه من المَوْصِل(2)· وكان عالماً بالعربية والفارسية واليونانية والتركية، وألّف كتاب الهداية وتفسير المزامير· وفي نهاية عصره احترقت كنيسة القيامة، وتوفي سنة 1808·
خلف البطريرك بوليكاربوس انثيموس سنة 1808، وهو متروبوليت بيت لحم، "وجرى تعيينه باتفاق آراء جميع رؤساء كهنة كرسي القسطنطينية الذين وجدوا في إسطنبول، وذلك تبعاً لإشارة البطريرك انثيموس الذي كان قد عيّنه قبل وفاته"(3)· وحصل البطريرك بوليكاربوس على فرمان من السلطات العثمانية لترميم كنيسة القيامة سنة 1809، وتوفي سنة 1827·
انْتُخِبَ البطريرك اثناسيوس الخامس سنة 1827 في "بكي كوي (ضاحية من ضواحي الأستانة على شاطىء البوسفور) في اجتماع حضره البطريرك القسطنطيني مع مطارنة الكرسي وأعيان الملّة الأرثوذكسية، وكانت الديون تثقل كاهل الكرسي الأورشليمي بالرغم من الواردات العظيمة"(4)· وبلغت ديون البطريركية ثلاثين مليون غرشاً، على الرغم من وارداتها العظيمة من أوقافها في العالم الأرثوذكسي وهدايا الحجاج إلى الأماكن المقدسة· وشُكّلَتْ لجنة في إسطنبول لتنظيم واردات الدير وتسديد الديون، وأبدى البطريرك حُسن النية للتعاون مع اللجنة، وأما صلاحياتها وواجباتها فتنحصر فيما يلي(5):
- تتولّى اللجنة مراقبة دفاتر حسابات البطريركية ولا تُؤجّر املاك البطريركية النائية إلاّ بموافقة اللجنة·
- تُسَلّم جميع الواردات إلى صندق اللجنة·
- تُعيّن اللجنة أمين صندوق ويُعيّن البطريرك مساعداً له·
- للّجنة الحق بالتدخل في تعيينات المناصب الكنسية في البطريركية·
- للّجنة الحق في مراقبة وتدقيق حسابات المبعوثين في مهام رسمية خارج البطريركية لجمع الإعانات·
- تُعيّن هيئة خاصة لمراقبة أعمال اللجنة·
- يتمّ تغيير بعض أعضاء اللجنة أو جميعهم بموافقة البطريرك الأورشليمي والقسطنطيني·
لم تنجح اللجنة في تصفية الديون وحسب، ولكنها نجحت في الحد منها في آخر عصر اثناسيوس الخامس، بيد أنه ترتب على ذلك وقوع الكرسي الأورشليمي تحت نفوذ البطريركية القسطنطينية المسكونية: "إلى هذه الحالة من الانحطاط والخنوع أوصل رجال القبر المقدس الكرسي الأورشليمي، ذلك الكرسي الذي بذل البطاركة الأقدمون جهودهم مفادين بحياتهم حتى جعلوه في مقدمة كراسي البطريركيات مركزاً واقتداراً· أما الآن فنراه قد سقط إلى الحضيض بفضل رجاله، فأصبح كالطفل يحتاج إلى الأوصياء والمربين والمرشدين· وهكذا قبل رجال هذا الكرسي، وفي رأسهم البطريرك اثناسيوس على أنفسهم أن يكونوا مقيدي الايدي مكمومي الأفواه تحت سلطة ومراقبة الكرسي القسطنطيني"(6)·
في فترة حكم البطاركة الثلاثة يشير قزاقيا إلى تمزق الطائفة الأرثوذكسية وانضمام الكثير من أبنائها إلى الطائفة اللاتينية والبروتستنتية، ويعزو ذلك إلى عدة أسباب مُتَسائلاً: "فأين هي المدارس التي شادوها ودفعوا بها غائلة الجهل الذي كان أقوى عامل لأن يستولي الغير على العقول والأفكار ويستميلوها· وهل نظروا إلى حاجة الشعب فشادوا المستشفيات والملاجيء وغيرها ··· فأين اهتمامهم بالمدارس والتهذيب الروحي الحقيقي؟ ··· وهناك أسباب أخرى غير التهاون كانت تعمل على تشتيت افراد الطائفة الأرثوذكسية وانضمامها إلى طوائف أخرى، وهي انحياز الرؤساء من بطاركة ومطارنة إلى فريق دون الآخر فيما كان يحدث من الاختلافات بين الأفراد والأسر، آخذين جانب مريديهم ومروجي بضائعهم من الفريقين المتنافرين وإن كانوا غير ذوي حق، فيقضون ويحكمون حسبما تقتضيه نزعاتهم ومصالحهم، ولو أدّى الأمر إلى إضاعة الجماعة الأخرى من طائفتهم· ولدينا شواهد ووقائع كثيرة أدّت إلى خروج مئات الافراد الأرثوذكسيين عن مذهبهم والدخول في أحد المذاهب الأخرى"(7)·
توفي اثناسيوس الخامس سنة 1844، وقد سيطر الكرسي القسطنطيني على الكرسي الأورشليمي من خلال تدخل البطريرك المسكوني في شؤونه المالية والإدارية· وفي الوقت عينه نشطت الحركة البروتستنتية التي أسفرت عن إنشاء الأسقفية الأنكليكانية سنة 1842· وزاد النفوذ الروسي الذي استمر بدوره منذ إنشاء الإرسالية الروسية سنة 1847، وسبق قيام الإرسالية الروسية نمو مطرد في العلائق الكنسية الروسية الفلسطينية·
2 - المصالح الروسية في فلسطين والحج الروسي إلى الأماكن المقدسة:
تتجاور السلطنة العثمانية وروسيا بحدود مشتركة: فتركيا استراتيجياً تتحكم بالمضائق، التي هي المنفذ الوحيد لروسيا إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط· وسياسياً تحكم السلطنة عدداً كبيراً من الرعايا السلافيين والمسيحيين الأرثوذكس· ودينياً هي أقوى الدول الإسلامية القائمة في قلب العالم البيزنطي القديم، وتحكم الأماكن المقدسة في فلسطين· تأثرت السياسة الروسية تجاه الأرثوذكسية وفلسطين بهذه العوامل الثلاثة، فَعَدّت بطريركية موسكو التي تأسّست عام 1589، نفسها الوريثة الشرعية للقسطنطينية، التي سقطت في يد العثمانيين سنة 1453، وقِبلة الأرثوذكسية كما هي روما قبلة الكثلكة· فقد جاء في مراسلات راهب روسي إلى الدوق يوحنا باسيلي (1462 - 1505) عن الدور الروسي المنتظر تجاه المسيحية عموماً والأرثوذكسية خاصة: "سقطت روما الأولى في الهرطقة، وسقطت روما الثانية (القسطنطينية) تحت النير التركي، ولكن انبثقت روما ثالثة (موسكو) في الشمال تنير العالم أجمع كشمس ساطعة ··· فقد هوت روما الأولى والثانية، أما روما الثالثة فستظل قائمة حتى نهاية الدهور وهي روما الأخيرة، فلا خليفة لموسكو، وقيام روما رابعة أمر غير معقول"(8)· فتطلع السلافيون إلى القيصر الروسي على أنه رأس هذه الكنيسة الروسية، وإن ظلت الزعامة الروحية للقسطنطينية، فقد سعت موسكو لتحسين وضعها ومدّ نفوذها في البطريركيات الأرثوذكسية·
وانحصرت مصالح روسيا حتى نهاية القرن السابع عشر بين مسيحيي السلطنة العثمانية في الأمور الدينية· أما في مطلع القرن الثامن عشر فتطلع القياصرة إلى إمكانية القيام بدور سياسي، بوصفهم حُماة الأرثوذكسية ونُصراء المسيحيين العثمانيين: فللمسيح الروسي المنتظر(9) مهمة سينفذها في القسطنطينية والأماكن المقدسة لخلاص الجنس البشري، وبلغت هذه الأفكار أوجها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(10)·
إن الكنيسة في روسيا اداة فاعلة لتنفيذ السياسة الروسية الشرقية، فقد نظر القياصرة إلى الكنيسة على أنها امتداد لأجهزة الحكومة(11)، فالكنيسة الروسية كنيسة دولة· فلا بدّ من إلقاء نظرة على تاريخها، ليتسنّى فهم دورها في السياسة الروسية وعلائقها بالبطريركية الأورشليمية·
ألغى بطرس الكبير (1672 - 1725) النظام البطريركي عملياً، وجعل نفسه رئيساً للكنيسة التي وضعها تحت سيطرة السنودس المقدس الذي يرأسه الوكيل العام، وهو شخصية حكومية· وأنشأ الكسندر الأول (1801 - 1825) سنة 1817 وزارة الشؤون الدينية والتربية العامة، وضمّ اليها السنودس المقدس· وفي سنة 1824 ألغى هذا النظام وجدّد منصب الوكيل العام، الذي عُدّ كوزير دولة يشترك في هيئة الوزارة، وصار السنودس المقدس وزارة له· ويتشكّل السنودس المقدس من رجال الكنيسة الموالين للقيصر، فغدت الكنائس منابر تعلن عليها الدولة سياستها وتعرض مشاريعها وخططها على الشعب، والوكيل العام هو صلة الوصل بين الدولة والكنيسة ممثلة في بطريركها· فالعلائق التي قامت بين الكنيستين الروسية والفلسطينية في القرن التاسع عشر هي في الواقع بين القيصرية الروسية والكنيسة الأورشليمية من خلال الكنيسة الروسية· فقد لجأت روسيا لهذه الطريقة في الشرق الادنى كلما تعرض نفوذها السياسي للتراجع أو الضعف، أي استخدام العنصر الديني من خلال الكنيسة الروسية· وعلائق الكنيسة الروسية بكنائس الشرق الأدنى برهان على هذه السياسة، كما هو الحال في البلقان والبطريركيات الشرقية، وبطريقة مميزة مع الكنيسة الأورشليمية، التي غدت حقلاً تقليدياً للنفوذ الروسي في الشرق(12)· ونظراً لطبيعة تكوين الكنيسة الروسية وعلاقتها بالدولة، "فالسياسة الكنسية الروسية في القرن التاسع عشر عبارة عن جزء من سياسة بطرسبورج العامة التي كان همّها تقدم نفوذها ومصالحها في الشرق الأدنى"(13)· ويجب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة العلائق بين القيصرية الروسية والسلطنة العثمانية من جهة، ومن جهة أخرى العلائق بين القيصرية والعناصر اليونانية التي حكمت بطريركية القدس، مما عقّد هذه العلائق وجعلها في غاية الحساسية والتوازن الدقيق·
ولعل سلسلة الحروب والمعاهدات بين روسيا والسلطنة، ولا سيما معاهدتي كاروفتس سنة 1699 وكوتشك قينارجة سنة 1774، قد جعلت لروسيا القيصرية وضعاً مميزاً بصفتها حامية الأرثوذكسية في السلطنة· أما اتفاقية ادرينوبل 1829 فقد كرست استقلال اليونان، وثبتت النفوذ الروسي والادعاء بحماية الأرثوذكسية· وساهمت سلسلة هذه المعاهدات في أن تظهر السلطنة بمظهر الرجل المريض، وتخلّت روسيا عن حلمها القديم باسترجاع القسطنطينية وتحرير الأماكن المقدسة، واكتفت بواقع السلطنة الضعيف الذي يناسب تطلعاتها السياسية· وبلغت هذه التطلعات أوجها بأن دعمت محمد علي في تمرده على السلطنة لتكريس ضعفها وإنهاكها· واستغلّت روسيا وغيرها من القوى العظمى تمرّد محمد علي على افضل وجه، "فقد فتح إبراهيم باشا سوريا لنفوذ الغرب بمبشريه وقناصله وتجارته، فبدأ بذلك عصر جديد، وعملت روسيا وغيرها من القوى الأوروبية بلهفة على استغلال ذلك على أحسن وجه"(14)·
وقد شكّلت فلسطين بؤرة المصالح الروسية في بلاد الشام، لما فيها من ذكريات توراتية وإنجيلية عزيزة على الشعب الروسي، الذي أسهم منذ أن سقطت القسطنطينية بيد الأتراك في التبرع بالمساعدات السخية مساهمة في "تخفيف مصائب مسيحيي الشرق المنكوبين"(15)· والحج الروسي إلى الأماكن المقدسة عريق في القدم ويعود إلى القرن الحادي عشر· فقدم الحجّاج الهدايا والهبات بسخاء للكنائس والأماكن المقدسة· ولم تنقطع طلبات الإعانة من الكنسيين الأنطاكيين والأورشليميين،"ونادراً ما رفض الروس تلبية هذه الطلبات، إذ إن المساعدات المادية حينذاك كانت السبيل الوحيد ليعبّر الروس بها عن تعاطفهم تجاه المسيحيين الأرثوذكس السوريين والفلسطينيين"(16)· ولكن إنفاق الهبات والمساعدات لم يخضع لرقابة المحسنين، ولم تستعمل دوماً لدعم الإيمان الأرثوذكسي بين العرب(17)·
ويذكر بابادوبولوس أن الحج الروسي إلى الأماكن المقدسة كان نادراً قبيل القرن التاسع عشر، ففي عام 1811 بدأ ظهور الحجاج الروس في فلسطين بمعدل ثلاثة حجاح أو أكثر كل عام حتى عام 1819، إذ جاء إلى فلسطين مئة حاج روسي(18)· وقد تنبه الروس مبكراً إلى أن حجاجهم لا يجدون في القدس من يعمل على حمايتهم ورعاية مصالحهم، فهم تحت رحمة الاتراك واليونان· ولذا يربط بابادوبولوس بين حركة الحج الروسي إلى فلسطين في مطلع القرن الماضي وافتتاح القنصلية الروسية سنة 1819· وأول القناصل الروس في فلسطين هو جورج موسترا (Mostra)، ثم ديمتريوس داسكوف (Daskoff)· وأقام القنصل الروسي في دير للبطريركية الأرثوذكسية في القدس، واضطر إلى هجر مسكنه بعد أن اتهم العثمانيون الرهبان اليونان بالتواطؤ مع القنصل الروسي، فاقتحم الجند الأديار بحثاً عن السلاح (19)·
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من الشخصيات والنبلاء الروس قاموا بزيارة فلسطين منذ عام 1830، وقدم هؤلاء الزوار تقاريراً إلى الجهات المعنيه، تحث المسؤولين على تحسين وضع الحجاج الروس في فلسطين، وقد أخذ عددهم في التزايد· وأهم تقرير قُدّم كان للكونت اندريه مورافيف (Andrei Moravev)، الذي زار فلسطين سنة 1838· وأهدى مورافيف القيصر نيقولا الاول (1825 - 1855) نسخة من رواية حجّه إلى فلسطين تقع في مجلدين، فعيّنه القيصر مديراً للمجمع المقدس· فرعى في منصبه الجديد المصالح الروسية في فلسطين(20)· ومن مشاريع مورافيف المقترحة: أن يرفع القيصر مستوى حماية الأرثوذكسية والأماكن المقدسة في فلسطين، وأن تقام إرسالية أو وكالة روسية في القدس لمراقبة سلوك الحجاج· وتوقع أن تكون هذه الإرسالية نواة النشاط الروسي الديني والسياسي في فلسطين، ومرتبطة بالبعثة الروسية في الأستانة· ولاقت افكار مورافيف استحساناً في وزارة الخارجية، ولكن لم تتُخذ اجراءات فورية لتنفيذها·
بعد أن فُتِحَت القنصلية الروسية في القدس لرعاية شؤون الحجاج سنة 1819، فُتِحَت قنصلية أخرى في يافا سنة 1820، وتبعت القنصليتان للاسكندرية· وفي سنة 1839 صارتا تابعتين لبيروت·
وتُعَدّ سنة 1839 تاريخ التحول في السياسة الروسية في الشرق عامة وفلسطين خاصة· فقد مارست روسيا دورها التقليدي، إلى أن تفجرت أزمة المسألة الشرقية سنة 1839، في حماية الأماكن المقدسة ورعاية الحجاج الروس وتقديم الدعم الدبلوماسي للبطريركية الأورشليمية في القضايا التي قد تُطرح بينها وبين الآباء الفرنسيسيين حول الأماكن المقدسة، كما قدمت المعونات المالية لترميم الأماكن المقدسة وصيانتها· فلم تتعرض العلائق بين الإكليروس اليوناني والبلاط الإمبراطوري الروسي للانقطاع أو التردي· فالمصلحة المشتركة الزمتهما بالتعاون الصادق والهادئ، ما دامت الدبلوماسية الفرنسية لا تحاول المس بالحقوق المشروعة للبطريركية في الأماكن المقدسة الرئيسة (21)· ولكن الموقف الروسي التقليدي الهادئ تغير على أثر التحرك البروتستنتي ونمو النفوذ الكاثوليكي في فلسطين· وغدا هذا النفوذ موضوع تقارير الحجاج والزوار والدبلوماسيين، فقد جاء في مذكرة مورافيف: " لم يكن نفوذ المرسلين اللاتين قوياً كما في أيامنا هذه· وهناك أسقف اسمه مكسيموس (مظلوم) بعثه البابا إلى جبل لبنان وسوريا، وقد منحه لقب بطريرك الإسكندرية وأنطاكيا والقدس· ويرتدي هو واتباعه زي الإكليروس الأرثوذكسي للتأثير على الجماهير الجاهلة· وينفق المال بسخاء لينتزع من كنائسنا ابناء طائفتنا الأرثوذكسيين"(22)·
رفع القنصل الروسي في بيروت قسطنطين فازيلي (Constantin Vasili) ثلاثة تقارير إلى السفير الروسي في الأستانة مؤرخة في 23 حزيران 1841، وموضوع التقرير الاول: احتياجات الإكليروس الأرثوذكسي في القدس· والتقرير الثاني دراسة لوضع الأديار الرهبـانـية، ديـر القديس سابا ودير القديس ايليا ودير الصليب· والتقرير الثالث حول الخطوات التي يجب اتباعها للحـفاظ على الســلام في القدس(23)· وتعالج التقارير وضع الكنيسة الأرثوذكسية إكليروساً وشعباً، والدعاية البروتستنتية والكاثوليكية، والاخطار المحدقة بالأرثوذكسية، وعجز روسيا عن التدخل لحمايتها· ولتقارير فازيلي فضل كبير في تحقيق المشاريع الروسية في فلسطين،" وآنذاك ترك فازيلي المجال لسفير روسيا في الأستانة ولدوائر الإمبراطور الروسي لدعم الأرثوذكسية والعمل على قيام مركز روسي كنسي في القدس"(24).
رُقِّيَ فازيلي سنة 1843 إلى رتبة قنصل عام، وحرص في منصبه الجديد على حضور الاحتفالات الدينية والاعياد في القدس، تأكيداً لدور روسيا في الأماكن المقدسة وبين الأرثوذكسيين في الشرق· وقد سبق للقنصل الروسي أن اقترح تخصيص دير الصليب لاستعمال الحجاج الروس، فرفض البطريرك اثناسيوس· وعرض الروس ثانية شراء ديري القديس إبراهيم والقديس ثيودور، فاعترض البطريرك ثانية، لما في المشروع من خطر محتمل على نفوذ أخوية القبر المقدس، وأبدى استعداده لترميم دير القديس ثيودور لاستعمال نساء الحجاج الروس، ودير القديس ابراهيم لاستعمال الرجال من ميزانية البطريركية الخاصة· "فقُبِلَت هذه الفكرة وصار تنظيم قانون بهذا الخصوص يحتوي على 68 مادة، وصادقت عليه الحكومة الروسية وتعّين الوكيل البطريركي مراقباً على هذين الديرين"(25)· وصادق القيصر على الاتفاق في 24 نيسان 1841·
وما اسفرت عنه مفاوضات أديار الحجاج الروس في فلسطين، عُدّ في روسيا اخفاقاً دبلوماسياً(26)· فتوجب عليها القيام بخطوة جديدة في فلسطين، وقد غدا واضحاً للعيان وهن العنصر اليوناني إزاء الدعاية الغربية، وإن مصلحة الأرثوذكسية تدعو إلى مدّ يد المساعدة لأخوية القبر المقدس(27)· والخطوة الروسية الجريئة في فلسطين هي إرسال الأرشمندريت بروفيريوس اوسبنسكي لتقصي الحقائق هناك·
3 - الأرشمندريت بروفيريوس اوسبنسكي:
تمّ التمهيد لمهمة بروفيريوس اوسبنسكي في فلسطين في دوائر المجمع المقدس الروسي ووزارة الخارجية والقصر الإمبراطوري· فرفع وكيل المجمع المقدس الكونت نيكولاي بروستوسوف (Nikolai Prostosov)(28) تقريراً إلى القيصر، اقترح فيه إرسال أرشمندريت روسي إلى فلسطين يرافقه راهبان أو ثلاثة، ومهمة هذه المجموعة فتح مدرسة في دير الصليب لتدريس الروسية واليونانية، ومراقبة إنفاق الحسنات الروسية للبطريركية الأورشليمية والعناية بالحجاج الروس(29)· وقد حوّل القيصر التقرير إلى الكونت كارل نسلرود Carl Nesselrode(30) وزير الخارجية، طالباً منه تقديم مذكرة شاملة حول الكنيسة الأورشليمية· فرفع الوزير المذكرة في 13حزيران 1842، عالج فيها وضع الكنيسة الأرثوذكسية في ظل الحكم العثماني، والدعوة الكاثوليكية والبروتستنتية بين الأرثوذكسيين، والعجز المادي والأدبي الذي يعانيه الإكليروس الأرثوذكسي في مقاومة هذه الدعوة، وإن الظروف الراهنة بعد تعيين أسقف أنكليكاني في القدس (سنة 1842) تدعو إلى تحرّك سريع· وإن الشخص المؤهل للقيام بمهمة تقصّي الحقائق ومعرفة ما يدور في أخوية القبر المقدس قد يكون رجل كنيسة وليس أحد دبلوماسيي الدولة· ويقترح أن يكون الشخص المعين لهذه المهمة أرشمندريتاً روسياً يسافر إلى القدس كحاج، وهناك يكسب ثقة الإكليروس العربي، ويدلي بتعليمات حول أنجع الوسائل لمساعدة الكنيسة· ولكن في الوقت عينه على الأرشمندريت أن يتعاون مع السلطات اليونانية ويتفادى الوقوع في نزاع معها، واخيراً يلمح إلى ضرورة إقامة البطاركة الأورشليميين في القدس وليس في إسطنبول لرعاية المؤمنين الموكلين إليهم(31)· وصادق القيصر على ما جاء في المذكرة في 3 تموز 1842، وأمر السنودس المقدس بترشيح الشخصية المناسبة لهذه المهمة، فاختار السنودس الأرشمندريت بروفيريوس أوسبنسكي، وصادق القيصر على تعيينه في تشرين الثاني 1842·
وُلِدَ بروفيريوس سنة 1804، ودرس في اكاديمية بطرسبورج الكنسية بين عامي 1825-1829، والتحق بالسلك الرهباني بابراز النذور الرهبانية سنة 1829، وعُيّن معلماً في اوديسا· وفي سنة 1834 مُنح الرتبة الأرشمندريتية، وأُرسِل سنة 1840 إلى فينّا راعياً للكنيسة القنصلية فيها، فدُعِيَ بروفيريوس من فينّا لاستلام منصبه الجديد· وقد لاقى ترشيحه للمنصب الجديد انتقادات لاذعة من معاصريه، فهو رجل كنيسة ولاهوتي ولا يصلح للعمل السياسي، فقد عُرِفَ بحدة الطباع والاندفاع، وهذه صفات لا تليق بالعمل الدبلوماسي(32)·
وفي هذه الأثناء، صاغ نسلرود أهم ما جاء في مذكرته في أربع نقاط قُدّمت للقيصر وجاء فيها:
1- ارسال إكليريكي روسي إلى أورشليم ليدرس بدقة احوال الكنيسة الأرثوذكسية·
2 - يجب أن يفهم الإكليروس الأورشليمي شدة اهتمام الكنيسة الروسية بشقيقتها في أورشليم·
3 - افادة الإكليروس الأورشليمي بهذا الاحتكاك افادة معنوية وادبية·
4 - يكون الإكليريكي الروسي(33) في أورشليم واسطة لربط العلائق في ما بين السينودوس الروسي (المجمع المقدس) والإكليروس الأورشليمي· ولأجل الاطلاع على الأحوال سلفاً ودفعاً لما لعله يقع من سوء تفاهم يجب أن يرسل اولاً رجل إكليريكي آخر إلى أورشليم بصفة سرية كزائر بسيط، فيدرس الحالة ليصير تطبيق الفكر عليها ويشير بما يجب اتباعه، بشرط أن يكون في إرسال الإكليريكي الروسي منفعة للكنيسة الروسية، حتى إذا تعيّن ذلك الإكليريكي يكون سيره في عمله جنياً على خبرة ومعرفة، وينظر في تعيين مدة إقامته· ويجب والحالة هذه أن يعتمد في أموره على مشورة وخبرة القنصل الروسي الموجود في أورشليم، إذ لا بدّ أن يكون أدرى بسياسة الاحوال وتوفيقها مع المسائل الدينية"(34)·
وفي تشرين الأول 1842، وصل بروفيريوس إلى بطرسبورج ومكث فيها ثمانية أشهر، وشاع خبر تعيينه وطبيعة مهمته الحقيقية التي توقعت وزارة الخارجية أن تظل سرّية· وصدرت إليه تعليمات وزارة الخارجية التي تنص على ما يلي:
1- يجب أن تتصرفوا كزائر بسيط دون أن تجعلوا مجالاً للاشتباه بكم·
2 - أن لا تعطوا سبباً للاشتباه في أنكم مأمور سرّي موفد من قِبل الحكومة·
3 - عليكم أن تجتهدوا باكتساب ثقة الإكليروس الشرقي وتستميلوه نحوكم، تختبروا رويداً رويداً الاحتياجات الحقيقية للكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين، وتطّلعوا على أفكار الإرساليات اللاتينية والبروتستنتية والأرمن، ومساعيهم مع أساليب نشر دعواتهم· وما هي أسباب نجاحهم أو عدمه، وكيف يكافحون المصاعب للحصول على غاياتهم·
4 - نحلّفكم باسم الله أن تتجنبوا كل عمل يوقعنا في مشاكل· ولتكن اهتماماتكم الرئيسية مقصورة على جمع المعلومات الصحيحة عن حالة الكنيسة الأرثوذكسية الفلسطينية· وفهم الوسائط الواجب اتخاذها لأجل تثبيتها ورفاهيتها·
5 - عليكم عند رجوعكم من فلسطين ووصولكم إلى إستنبول، أن تكتبوا هناك لائحتكم عما خبرتموه واستنتجتموه من اختباراتكم وابحاثكم الدقيقة وتقدموها إلى سفيرنا في إستنبول، وهو يرسلها إلينا مع إظهار مطالعاته الشخصية وإبداء آرائه فيها· وإنّنا ننصح لكم بأن لا تستهينوا بأمر عرض اللائحة على السفير· لأنه رجل ذو حنكة وله اضطلاع واسع في أمور الشرق السياسية والدينية· وإذا وجد هناك من نقاط للاعتراض فتباحثوا فيها معه، فتعلموا مقدار بُعد نظره وتقيسوا بأفكاره اعتباراتكم فيما تكتبون ومع ذلك فلا نجبركم على هذا إجباراً "(35) ·
ويبدو من تعليمات الخارجية أن مهمة بروفيريوس تنحصر في جمع المعلومات والتعاون لإنجاز مهمته مع السفير الروسي في الأستانة· وبهذا المعنى أيضا كانت توصية سينيافين (Senyavin) مدير الدائرة الآسيوية في وزارة الخارجية: " قم بأمانة بواجبك كحاج، لا تجعلنّ الغموض يكتنف شخصيتك، ولا تظهر بأي حال من الاحوال أنك موفد من الحكومة، بل حاول كسب ثقة الإكليروس الشرقي، محاولاً إكتشاف مطالبهم الحقيقية وأهدافهم وإنجازاتهم وطبيعة عمل الكاثوليك والأرمن والبروتستنت، ولا تورطنّ نفسك بأي شكل من الأشكال، فواجبك الرئيس جمع المعلومات"(36) ·
ولا شكّ ··· أنها لمهمة عسيرة أُلقيت على عاتق الأرشمندريت بروفيريوس اوسبنسكي رجل الكنيسة واللاهوت· فالمهمة في غاية الحساسية والدقة، وتستوجب حنكة الدبلوماسيين وخبرتهم الطويلة· فازدواجية الشخصية والأهداف من طبيعة العمل الدبلوماسي وليس الكنسي· وقد التمس بروفيريوس بأن يُرْسَل إلى فلسطين كموفد كنسي رسمي، وليس من طرف الحكومة فرُفِضَ التماسه(37)· فتذمر بروفيريوس من طبيعة مهمته المزدوجة، ولم يكن بوسعه اخفاء حقيقته، ولا هو رضي بذلك، كما لم يعد خافياً عند وصوله إلى القدس على اليونان والعرب طبيعة مهمته الحقيقية· فوصفه تقرير لجنة برترام وينغ بأنه، "كنسي غريب الميول والنزعات"(38)· وإن الهدف البعيد للتحرك الروسي في فلسطين هو، "استحداث تغلّب روسي في العالم الكنسي في الشرق الادنى، وزحزحة التغلّب اليوناني في البطريركيات الأرثوذكسية"(39)· ويكشف المؤرخ اليوناني بابادوبولوس طبيعة مهمة بروفيريوس الحقيقية، فهو على اطلاع كامل بتعليمات وزارة الخارجية إليه وأهداف مهمته والنتائج التي أدت إليها(40)·
وفي صيف 1842 غادر بروفيريوس بطرسبورج فوصل اسطنبول في 22 ايلول 1842، وفي تشرين الأول وصل إلى بيروت، ومنها انطلق لزيارة المدن والقرى السورية والفلسطينية، واتصل بالكهنة وتفقّد احوال الرعايا، ووصل القدس في 20/12/1842· ولمس الصراع القائم بين الرعية العربية والإكليروس اليوناني وحالة الأرثوذكسية السيئة، "ونسي تدريجاً التعليمات الصادرة إليه، فهو غير أهل للدور الدقيق الذي انتظرت حكومته أن يقوم به، فلم يكن دبلوماسياً، ولم يحاول أن يكسب ثقة العرب واليونان في آن واحد، فقد غدت مهمته الحقيقية معروفة في القدس، واستقبل علناً شكاوى العرب ووعد بإبلاغها إلى بطرسبورج"(41)· واتهمه اليونان صراحة أنه يُحرّض العرب عليهم ويُغريهم بقلب الحكم الكنسي والاستئثار بالسلطة الكنسية بدلاً منهم(42)· فلم يعد يُخفي حقيقة تعاطفه مع العرب وتورطه في الدفاع عنهم· فأقسم الإكليروس اليوناني على عدم اطلاعه على الأمور المهمة في الأخوية والامتناع عن إعطائه جواباً عن أسئلته، وهذا الأمر ساءه جداً، وأثار غضبه وحقده على الإكليروس اليوناني، ووصفهم بأنهم يتاجرون بالدين(43)· ولعل في حديثه مع مطران اللد كيرلّس، الذي اعتلى الكرسي الأورشليمي البطريركي سنة 1845 صورة عن علاقته بالعرب واليونان(44)·
وصل بروفيريوس إلى إسطنبول في شهر آب 1844، بعد أن أمضى تسعة أشهر تقريباً في فلسطين· وقدم تقريرين إلى السفير الروسي تيتوف (Titov) في 28/10/1844 و 5/1/1845، وأهم ما جاء فيهما ما يلي(45):
- إن وضع الكنسية الأورشليمية خطر جداً·
- يقيم البطريرك بعيداً عن القدس في إسطنبول، ولا ضرورة لذلك فوضعه غير قانوني، ولا ينظر إليه العرب كرئيس لهم·
- إن الإكليروس اليوناني غير مثقف والمناصب الكنسية تُشتَرى بالمال·
- تسرّبت عادات دنيوية للحياة الرهبانية، والبتولية غير مطبقة في اوساط أخوية القبر المقدس·
- الإكليروس العربي غير مثقّف وبعضه أمّي، ويعتمد في معيشته على حسنات الشعب، إذ إن البطريركية لا تصرف له رواتب منتظمة، والجفاء سائد بين العرب واليونان·
- إن حالة الكنائس مزرية، مع أن مبالغ طائلة ترسلها روسيا إلى القدس فتختفي دون أن تترك أثراً·
- يشــكـل النـشــاط الـتـبـشـيري الكـاثـولـيكي والأنـكـليكاني خطراً داهماً على الأرثوذكسية·
وفي أعقاب النقد السلبي لأوضاع الكنيسة الأورشليمية يقدم بروفيريوس اقتراحاته الإيجابية التي تتلخص فيما يلي:
" أن يُرْسَل أسقف روسي إلى أورشليم وليكن من ذوي اللياقة والخبرة، ليتمكن من التقرب إلى الإكليروس الأورشليمي واكتساب احترامه· وعندها يقدر أن يراقب اعمال وتصرفات هذا الإكليروس عن كثب ويدقق النظر في حالة الكنيسة العمومية· بعد ذلك يجب تأسيس مدرسة لأجل تربية اولاد الطائفة الأرثوذكسية الوطنيين على روح الدين القويم والتقوى وتكون المدرسة تحت إدارة الأسقف· مع إجبار الإكليروس الروسي أن يتعلم اللغة العربية التي هي لغة الطائفة الوطنية· ثم تُترجم كتب الدين وغيرها من الروسية إلى العربية ويصير توزيعها في جهات سوريا وفلسطين ومصر· ويجب أيضاً إنشاء المؤسسات الخيرية على اختلاف انواعها· مع تأسيس إرسالية روسية يكون مركزها أورشليم، وتوسيع نطاقها إلى سوريا ومصر· وتكون أعمالها مستقلة لا علاقة للقنصل الروسي بها، بل تكون مواصلاتها مع المجمع المقدس الروسي، فلا يشتم منها الا الغاية الدينية"(46)·
ومكث بروفيريوس في إسطنبول ينتظر السماح له بالسفر إلى مصر، وكان منهمكاً في إعداد تقاريره للسفارة الروسية وتقديم اقتراحه الرامي لإنشاء الإرسالية الروسية· ولكن في هذه الأثناء، أي في 16 كانون الاول 1844، توفي البطريرك اثناسيوس الخامس، فكان لبروفيريوس كلمة يقولها في انتخاب خليفته وفي كيفية انتخابه قبل أن يعود إلى روسيا، فقرر حينئذ إلغاء سفره إلى مصر·
4- البطريرك كيرلّس الثاني (1845 - 1872) ·
لمّح نسلرود وزير الخارجية الروسي في تقاريره السابقة إلى ضرورة انتخاب البطاركة في القدس وليس في القسطنطينية· وتحمّس بروفيريوس لنظرية نسلرود، فجاء في مذكراته: "لقد أضاع البطاركة الأورشليميون حق تعيين خلفائهم قبل مماتهم· وفقدان هذا الحق يخلق التفرقة والأحزاب في أخوية القبر المقدس· ففي كل انتخاب سيقع الانقسام والكيد والفساد، وكل بيت ينقسم على نفسه يسقط"(47)· فيؤكد المؤرخون العرب واليونان والروس وغيرهم دور الروس في انتخاب البطريرك في القدس وليس في القسطنطينية، "فقد أثار التدخل الروسي في القسطنطينية غضب البطريرك المسكوني، لأنه وضع حداً لوصايتها التقليدية على بطريركية القدس"(48)·
رشّحت أخوية القبر المقدس ييروثوس مطران طابور خلفاً لاثناسيوس، "ولكن تعيين كيرلّس الثاني بمساعي السفارة الروسية بطريركاً كان في 16 آذار سنة 1845· ولم يكن للكرسي القسطنطيني يد في هذا التعيين· وخالف البطريرك كيرلّس العادة المألوفة لدى بطاركة أورشليم، وهي قضاء أكثر الأوقات في القسطنطينية وعدم الحضور إلى مركز رئاستهم أورشليم إلاّ في الظروف الحرجة، فكانت إقامته الدائمة في أورشليم"(49)· ويؤكد هوبوود (Hopwood) أن البطريرك كيرلّس تمتع بالاستقلال وأخذ يتصرف ويحكم دون الرجوع دوماً إلى القسطنطينية(50)، ويؤكد آخر أن وجود البطاركة في القدس غدا ضرورياً بعد إقامة الأسقفية الأنكليكانية ونمو النفوذ اللاتيني(51)· ولا شك أن الصراع بين الأرثوذكس واللاتين حسم الموقف بعودة البطاركة إلى القدس، "فاضطرّت هذه الأحوال وغيرها (أي الصراع على الأماكن المقدسة ···) أن يُنقل مركز البطريركية إلى القدس بعد أن هجرها البطاركة الأرثوذكسيون نحو قرنين ونصف، حيث كانوا يقيمون في القسطنطينية تقرباً من الاماطيش (الأديار) والاملاك الواسعة التي كانت للقبر المقدس في بلاد الفلاخ والبغدان وبسرابيا والكرج والقفقاس وبر الاناضول ومكدونيا وتركيا، التي بلغت أحسن حالاتها في عهد البطريرك كيرلّس، فكانت تدر عليه الاموال الطائلة، نحو ثلاثين مليون غرش فكُنّي >بابي الذهب<· وكان في وسعه أن يُرقّي أبناء شعبه إلى أعلى درجات التقدم والنجاح الادبي لوفرة المال بين يديه لو أراد ذلك، ومع هذا فقد فتح عدة مدارس ابتدائية"(52)· أمّا مؤلف كتاب >لمحة تاريخية في أخوية القبر المقدس اليونانية< فله نظرة خاصة لتفسير انتقال الاقامة البطريركية: "نقل مركزه البطريركي من القسطنطينية إلى أورشليم، ليس رغبة منه في الاعتناء بأمور رعيته، بل بغية في التخلص من مطامع إكليروس الفنار"(53)· ونُظِرَ إلى هذا الحادث، أي انتقال البطاركة إلى القدس وانتخابهم فيها، على أنه إعلان استقلال كنيسة القدس وتحررها من التبعية التقليدية للبطريركية المسكونية القسطنطينية·
إن التطورات الأخيرة التي أسفرت عن إقامة البطاركة في القدس بفضل المساعي الروسية لم تَحظ برضى أخوية القبر المقدس، "فلم يرُق لأفراد الرهبنة عمله هذا ونقموا على اوسبنسكي الذي كان الواسطة الفعّالة في انتخاب البطريرك كيرلّس"(54)· يتفق المؤرخ اليوناني بابادوبولوس مع بعض ما جاء في تقييم قزاقيا للبطريرك، ويلمح إلى أن انتخابه تمّ بظروف عسيرة صعبة في القدس، ومع أن البطريرك أراد تنظيم الأخوية إلاّ أنه اشتهر بميله للحكم الفردي المطلق(55)·
وقد أولى كيرلّس الذي عرف عنه بأنه >المناصر المخلص<(56) لاوسبنسكي، وأقل تعصباً من غيره من البطاركة للجنس اليوناني، والمع بطاركة القرن التاسع عشر(57) اهتماماً خاصاً للثقافة ونشر المعرفة؛ فأنشأ مدرسة إكليريكية ومطبعة في دير الصليب، وفتح مدارس إبتدائية للناشئة الأرثوذكسية في انحاء البطريركية، وأنشأ مستشفى تابعاً للبطريركية· وكان البطريرك قد أحضر إلى القدس طبيباً روسياً يدعى رافالوفيش (Rafalovich) سنة 1847 وسكن في البطريركية، وافتتح صيدلية وأخذ يوزّع الأدوية ويعالج المرضى مجاناً· أمّا افتتاح المستشفى رسمياً فيبدو أنه تم في 15 آذار 1871 بالقرب من باب الخليل، وعدد اسرّته 40 سريراً والمشغول منها عادة أقل من ثلاثين· وعالج المستشفى مرضى العرب واليونان وبعض الروس· وكان الاقبال عليه جيداً، ففي عام 1894 زاره 25000مريض، أدخل منهم للاقامة في المستشفى 556 حالة، ومن مشاهير أطبائه مازاراكي (Mazaraky) وسبيريدون Spiridon) (58)· وأهم إنجازات كيرلّس كان افتتاح مدرسة دير الصليب·
5 - مدرسة دير الصليب اللاهوتية - المصلبة - (59) :
طرح فكرة إنشاء مدرسة لاهوت أرثوذكسية البطريرك اثناسيوس سنة 1843، ووافته المنية سنة 1844، فأُهمل المشروع مؤقتاً إلى ما بعد انتخاب البطريرك كيرلّس، الذي استدعى الراهب ديونيسيوس كليوباس (Dionisios Kleopas)، وهو علاّمة معروف في الأوساط الجامعية في ليبزيغ وبرلين· ويقول ديونيسيوس:" عرض عليّ البطريرك كيرلّس قضية النفوذ البروتستنتي واللاتيني في الأماكن المقدسة، وضرورة التصدي للتيارات الغربية، وأن المدرسة اللاهوتية ستكون بمنزلة منارة للأرثوذكسية"(60)· وفي سنة 1851 بدأ التحضير لإنشاء المدرسة، فقدّم البطريرك لديونيسيوس الكتب والمخطوطات ومؤلفات آباء الكنيسة والمؤلفات الكلاسيكية وعيّنه مديراً لتلك المدرسة·
وبدأ التدريس في المدرسة في 4/10/1855بإدارة كليوباس· وضمّت المدرسة الصفوف الأربعة الأولى، وأُضيف الصف الخامس سنة 1860· قاومت أخوية القبر المقدس كليوباس وعارضت مشاريعه، فقدّم البطريرك له كل مساعدة ممكنة ودعم موقفه تجاه الأخوية، ولكنه أخيراً اضطرّ إلى الاستقالة وعاد إلى اثينا في 7/8/1856، وعُيّن استاذاً في جامعة اثينا (61)· وتولى إدارة المدرسة بعده عدة رؤساء·
كان البطريرك هو رئيس المدرسة الأعلى، التي حاضر فيها نخبة من مشاهير الاساتذة والعلماء· ويتولى رعاية المدرسة مجلس أمناء يُعيّنه البطريرك من ثلاثة أعضاء، ومهمته الرقابة على حسن سير التدريس والنظام وتطوير المناهج وانتقاء الاساتذة وتدقيق الميزانية· وفي نهاية العام يقدّم تقريراً مفصلاً للبطريرك حول المدرسة· ويضم كادر المدرسة: المدير والمعلمين وموظفي الإدارة والمكتبة وأمين السر ومجموعة من الخدم· ويمنع الغرباء من دخول المدرسة إلا بإذن من المدير· وبلغت الرقابة والعناية بالطلاب أشدّها، فقد عُهِدَ لطبيب بالكشف الطبي الدوري على الطلاب ومعالجتهم ومراقبة المواد الغذائية المقدمة اليهم وأدوات المطبخ، ويتم الكشف والرقابة أسبوعياً إذا دعت الضرورة لذلك(62)·
يُشترط في المرشح لدخول المدرسة أن يكون من أصل أرثوذكسي، حسن السيرة والسلوك جيد الصحة وعمره يتراوح بين 17 - 22 عاماً، وملماً بالتعليم المسيحي واللغة اليونانية والحساب والجغرافيا والتاريخ المقدس واللغة العربية· وعند قبوله على من يتوكل به كولي أمره أن يدفع سبعين ليرة تركية تُودع في خزينة البطريركية، وتعاد لوكيله بعد تخرجه، وللبطريركية فائدة رأس المال المستثمر، أمّا الدراسة فمجانية(63)· وتقبل المدرسة الطلبة الأرثوذكسيين فقط: "يتألف مجموع تلاميذها الذين يجب أن لا يزيد عددهم عن السبعين تلميذاً، في الدرجة الأولى من أبناء الوطن الأرثوذكسيين التابعين للكرسي الأورشليمي المقدس، وفي الدرجة الثانية من فتيان اليونان الذين يتبناهم رهابين القبر المقدس، وفي الدرجة الثالثة من أبناء الأرثوذكسيين المنتمين لسائر أبرشيات العالم الأرثوذكسي الذين يحظون بعطف ورضى البطريرك"(64)· ولكن لا يتساوى الطلاب العرب واليونان في المدرسة من حيث مدة التعليم والعدد: "وينقسم التدريس فيها على ستة صفوف، فيستوي التلاميذ العرب واليونان في الصفوف الأربعة الأولى، وينفرد التلاميذ اليونان الذين إنضووا إلى سلك الرهبنة وسيموا شمامسة في الصفين الاخيرين، فيتلقون فيهما الدروس اللاهوتية· وفي ذلك إجحاف بحق التلاميذ الوطنيين، المزمعين بحسب قانون المدرسة أن يتولوا وظيفة التعليم في مدارس الكرسي الأورشليمي المقدس، وأن يرقوا إلى درجة الكهنوت الشريفة بعد زواجهم، حين يتحتم عليهم أن يعلّموا المسيحيين حقائق الإيمان الأرثوذكسي، فهم أحوج من سواهم لدرس علم التيولوجيا (اللاهوت)· ومع أن الوطنيين هم أحق وأولى من غيرهم في التلمذة للمدرسة المذكورة، فقد كان عددهم قليلاً جداً بالنسبة إلى ابناء اليونان في جميع أدوارها"(65)·
وتبدأ السنة الدراسية في 1 ايلول باحتفال ديني، يلقي خلاله المدير أو أحد الأساتذة خطاباً· ويتغير برنامج المدرسة حسب الفصول، ولكن بصفة عامة تُلقى المحاضرات من الثامنة إلى الظهر، ومن الواحدة والنصف حتى الثالثة أو الرابعة مساءً، وزمن الحصة ساعة كاملة· والامتحانات متنوعة: يومية وفصلية، شفوية وتحريرية، وأُسس النجاح والرسوب صارمة جداً· ويضم المنهاج المواد التالية: اللغّات اليونانية واللاتينية والعربية والفرنسية والروسية، والحساب والهندسة والجبر والمثلثات والفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي وعلم المعادن والفلك، وعلوم العهد الجديد والعهد القديم، والتاريخ القديم والوسيط والحديث، وعلم النفس والمنطق والميتافيزيقيا وتاريخ الفلسفة والقانون العام والقانون الكنسي والكرازة والموسيقى والليتورجية· وتدرّس العلوم العامة والكتابية معاً من السنة الرابعة، فيجمع الطالب بين الدراسة الجامعية والكنسية(66)·
ولا يفوتنا القول أن المدرسة أُغلقت مراراً عبر تاريخها، فأول مرة سنة 1876، وأُعيد فتحها سنة 1881 حتى 1888فأُغلقت ثانية،" لتراكم الديون على البطريركية"(67)، وأُعيد فتحها سنة 1893 واقفلت سنة 1909· وصدر عنها سنة 1893 مجلّة لاهوتية· وضمّت المدرسة بين عامي 1893 - 1909 ستة صفوف واحياناً سبعة، وأكمل بعض طلابها في هذه الحقبة دراساتهم العليا في جامعة اثينا0
6 - الإرسالية الكنسية الروسية الاولى (1847 - 1854) :
حقق بروفيريوس في الأستانة أعظم أمنياته بانتخاب كيرلّس بطريركاً في القدس، وقد حقّق في الواقع اقامة رأس جسر روسي أرثوذكسي في البطريركيات الشرقية(68)· وعاد إلى بلاده حاملاً في جعبته نصراً روسياً حققه في البطريركية الأورشليمية، أُم الكنائس قاطبة وقِبلة المسيحيين، ووصل بطرسبورج في 14 تشرين الاول 1847، وزار في طريق عودته مصر وجبل آثوس ورومانيا· وتوقّع أن يستقبله المسؤولون الكنسيون والمدنيون بالتهنئة والمباركة لما قام به في الشرق لخدمة بلاده! ولكنه واجه انتقادات لاذعة· وقدّم مذكرة حول الإرسالية الروسية المتوقع قيامها في القدس، ولكن المذكرة لم تصل مطلقاً إلى المجمع المقدس بل إلى وزارة الخارجية، ومنذ ذلك الحين ارتبط مصير الإرسالية الروسية الكنسية بالدبلوماسية الروسية (69)·
في الحادي عشر من شباط 1847، أقرّ القيصر نقولا الأول التعليمات الخاصة بتكوين الإرسالية الروسية، ورشّح السنودس المقدس بروفيريوس للمنصب الجديد في القدس في 31 تموز 1847، على الرغم من الانتقادات التي واجهها والتحفظات حول موقفه إزاء العرب واليونان في فلسطين· وعلّق على ذلك بروستوسوف وكيل المجمع المقدس العام، "إنّ بروفيريوس نفّذ تعليمات السفير تيتوف في حدها الأدنى"(70)· وعلى الرغم من ذلك وقع اختيار المجمع عليه، ولا شك أنه تمتع بدعم نسلرود وزير الخارجية صديقه الحميم·" إنه لأمر مبهم أن ينتخبه المسؤولون رئيساً للإرسالية الروسية الكنسية بعد تجربتهم الأولى معه· لا بد أنّهم اتخذوا قرارهم هذا بناء على خبرته ومعرفته الواسعة بالشرق، فيكون نداً للبطريرك اللاتيني فاليركا والأسقفين البروتستنتيين الكسندر وغوبات اللذين شرعا في نشر العقيدة البروتستنتية في القدس"(71)·
وصدرت تعليمات السنودس المقدس لاوسبنسكي، وهي تكرار للتعليمات السابقة: فهو رئيس بعثة الحج الروسية، ولكن ليس له أن يتدخّل في أمور الحجّاج، لأن ذلك من اختصاص السلطات المحلية في القدس، وعُهد إليه أن يقيم الصلاة للحجاج بلغتهم· وعليه أن يتعاون مع الإكليروس الوطني واليوناني، للعمل على نهضة تدريجية في صفوف الإكليروس اليوناني الذي يرعى المسيحيين الأرثوذكس في الشرق ··· وليس للبعثة صفة رسمية حكومية· زوّد متروبوليت بطرسبورج بروفيريوس بكتاب توصية للبطريرك الأورشليمي كيرلّس، وصرف له مبلغاً سنوياً قدره عشرة آلاف روبل· وانطلق في رحلته الثانية إلى القدس في 14تشرين الأول 1847، فوصلها في 18 شباط 1848، ويرافقه راهبان روسيان· وذلك بعد شهر من دخول البطريرك اللاتيني فاليركا إلى القدس في 17 كانون الثاني 1848·
كانت مهمة بروفيريوس الرسمية تمثيل السنودس المقدس الروسي في القدس واقامة الصلاة للحجاج، ولكن " لم يُصدّق أحد أن مهمة الإرسالية تنحصر بالمجال الكنسي والتربوي"(72)· فالأرشمندريت الروسي بدرجة البطريرك اليوناني المقيم في القدس، وعامله اليونان من هذا المنطلق، ونظر إليه العرب على أنه ممثل الكنيسة والحكومة الروسية، مع أن حكومته لم تمنحه هذه الصفة· ولذا كانت علاقته مع الإكليروس اليوناني" سليمة ولكن غير ودّية"(73)· وفي هذا المعنى يصف قزاقيا موقفهم تجاهه بقوله: "أما رهبنة القبر المقدس فكان استياؤهم عظيماً وكانت نقمتهم على اوسبنسكي تزداد يوماً عن يوم"(74)· أما البطريرك الذي وصل إلى العرش الأورشليمي بفضل الدعم الروسي، فقد نشأت بينه وبين بروفيريوس صداقة حميمة، وتعاون معه في كثير من المجالات، وخصوصاً في الحقل التربوي·
وساهم بروفيريوس في تثقيف الشعب والإكليروس الوطني: "على الرغم من التبرير الذي يقدمه الكُتّاب اليونان، فقد أهمل الإكليروس اليوناني تثقيف الشعب والإكليروس العربي، فأحب بروفيريوس هذا الشعب حباً جماً، وساءه معاملة اليونان له، فعمل على تثقيف الشبيبة العربية وتربيتها"(75)· فشجّع بروفيريوس البطريرك على فتح المدارس الابتدائية في الريف والقرى، وقاوم الدعاية البروتستنتية والكاثوليكية وقدّم كل ما بوسعه من مساعدات مادية للطوائف والكهنة، ودفع رواتب المعلمين في المدارس الابتدائية· ولبروفيريوس فضل لا يُنكر في فتح معهد دير الصليب اللاهوتي، وعيّنه البطريرك سنة 1853 رئيس أمناء المعهد· ولتزويد المدارس بالمطبوعات نسّق مع البطريرك لافتتاح مطبعة عربية، "وقد سعى هذا العالم العامل (بروفيريوس) بإيجاد رجل خبير في الطباعة ونشر الكتب· وفي 26تشرين الأول سنة 1852 احضر إلى أورشليم لهذه الغاية لازاريذيس· وفي 14 شباط 1854 بوشر بنشر كتب الدين مترجمة باللغة العربية· فنُشِرَت في كل جهات فلسطين بين الأرثوذكسيين كتب الرسائل والكاتيسيس (أي التعليم المسيحي)"(76)· واخفق بروفيريوس في إنشاء مستشفى ومكتبة في القدس، إذ إنه في السنوات الاخيرة لم يتلقَ الدعم المادي الكافي من روسيا، وأصبح عالة على البطريركية، فأدت عدة اسباب إلى إضعاف موقفه وإخفاق مهمته، ونجملها فيما يلي:
1 - إن الصراع الذي دار في بطرسبورج بين السنودس المقدس ووزارة الخارجية حول طبيعة الارسالية الروسية أضرّ ببروفيريوس، فلم يتحمل أحد الطرفين مسؤولية الإرسالية كاملة: "فغدا بروفيريوس متروكاً من كلا الطرفين"(77) ·
2 - طبيعة العلائق اليونانية - العربية - الروسية: إذ إن سياسة روسيا العامة هي دعم البطريركية الأورشليمية من خلال رؤسائها اليونان، بينما دعا تيار آخر إلى تحرير الشعوب السلافية والعربية الأرثوذكسية من السيطرة الكنسية اليونانية· فوقع بروفيريوس في القدس بين هذين التيارين، فلم يستطع إرضاءهما في آن واحد·
3 - إن عودة البطريرك الأورشليمي إلى القدس كانت إحدى انتصارات بروفيريوس العظيمة وذروة أمنياته، ولكن يبدو أن عودة البطريرك كانت بسبب النفوذ الكاثوليكي والبروتستنتي، وليس إرضاء لرغبة الروس، " فتابع بروفيريوس عمله في القدس بمرارة، وكأن البعثة الروسية جاءت إلى القدس لترأس تأبين جثمان الأرثوذكسية"(78) ·
4 - إن أعظم إنجاز للإرسالية الروسية في عهد اوسبنسكي في رأي ستافرو(79) هو المشاركة في تكوين الوعي العربي الأرثوذكسي، الذي مطلبه الأساسي التحرر من السيطرة اليونانية، فَعَدّ بروفيريوس نفسه رائد النهضة الأرثوذكسية الروحية في الشرق، في إطار الصراع اليوناني - الروسي، الذي برز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (Panslavism vs Panhellellenism)، ومن ثمار هذه النهضة استقلال الكنيسة البلغارية سنة 1872· فأرسى بذلك ثوابت السياسة الروسية الشرقية، وسارت البعثة الروسية الثانية (1857) والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية (1882)، على المنهج الذي وضع أسسه·
أنهى اوسبنسكي أعمال الإرسالية في القدس على أثر هزيمة روسيا في حرب القرم، (1854 - 1856)، على يد الجيوش العثمانية والإنكليزية والفرنسية· فأمره العثمانيون بمغادرة البلاد، فلجأ إلى القنصل النمساوي فآواه وقدم له بعض المال، وغـادر الـبـلاد في 8 أيار 1854، وحضر وداعه"مجموعة من الأمهات المخلصات له، واللواتي دَرّسْنَ اطفالهن في المدارس التي نظمها بروفيريوس ··· فغادر البلاد ذلك الشخص الذي ادخل بحضوره شعاعاً من نور إلى ظلمات المجتمع المسيطر عليه العنصر اليوناني· واوجد بعض الامل في حياة العرب الأرثوذكس"(80)· ويندب قزاقيا حظ الأرثوذكسية برحيل اوسبنسكي بقوله:"وأخيراً قُدّرَ للأرثوذكسية أن تُحْرَم من تلك الوسائل والأعمال الشريفة، التي كانت تنسكب عليها مجاري الراحة والسعادة بواسطة روسيا في شخص اوسبنسكي"(81)· وعيّن بعد عودته رئيساً لأحد الأديار، ورُقّي إلى درجة الأسقفية، وتوفي سنة 1885·
7 - الإرسالية الكنسية الروسية الثانية (1857 - 1894) :
أدّت حرب القرم التي هُزمت فيها روسيا أمام الجيوش العثمانية والإنكليزية والفرنسية، ومؤتمر باريس الذي عُقد لتصفية نتائج هذه الحرب، إلى أن يتراجع النفوذ الروسي في السلطنة العثمانية، ويتزعزع الدور التقليدي لروسيا في حماية الأرثوذكسية· فقد غادر بروفيريوس رئيس الإرسالية الروسية القدس في ظروف مأساوية بحماية القنصل النمساوي· "فكان من الطبيعي أن تبتكر روسيا وسائل سياسية جديدة للحفاظ على نفوذها في الدولة العثمانية، مع الأخذ بعين الاعتبار الرغبة الروسية التقليدية في التوسع جنوباً عبر البحر الأسود"(82) · ومن ناحية أخرى، لم يعد ضرورياً أن تتبع روسيا طرقاً ملتوية في علائقها بالكنائس الأرثوذكسية تحت الحكم العثماني، وقد صدر خط همايون سنة 1856 الذي أعلن المساواة بين رعايا السلطنة، وبحجة هذا النظام الجديد بوسع روسيا أن تتدخل لحماية الرعايا الأرثوذكسية مباشرة، دون التستر خلف السلطات الكنسية اليونانية القائمة في البطريركيات الشرقية·
كان مُخطِطا السياسة الروسية بعد حرب القرم هما الكسندر جورشاكوف (Gorchakov) وزير الخارجية (1856 - 1882)، وشقيق القيصر الغرندوق قسطنطين نيكولايفش (Nikolaevich)· ورأى هذان السياسيان أنّ تقوية النفوذ الروسي المتصدع سيتم من خلال تجديد الإرسالية الروسية في فلسطين، وبناء أسطول تجاري في البحر الاسود، يخدم روسيا في السلم بنقل الحجاج والتجارة، وفي الحرب بنقل الجنود والمعدات، فأسس قسطنطين الشركة الروسية للملاحة التجارية سنة 1856·
وقّع القيـصر الكـسندر الثاني وثائق انشاء الإرسـالية الروسـية الثانية بتاريــخ 2 آذار 1857، "وطلب من الدولة العثمانية رخصة لهذا الامر فحصل على الرخصة"(83)· وخُطّطَ للإرسالية أن تكون جهازاً تابعاً للحكومة، ولذلك لم يرشح جورشاكوف بروفيريوس لرئاسة هذه الإرسالية، وقد غدا شخصاً غير مرغوب فيه لدى أخوية القبر المقدس، بل عُينّ كيرلّس ناخوموف (Naumov)، الذي توقّع أن يكون "أداة طيعة بيد وزارة الخارجية"(84)· ولذا فإن الإرسالية الروسية الثانية "ذات أصل وغاية سياسية"(85)· وربط وزير الخارجية والغرندوق قسطنطين بين شركة الملاحة والإرسالية من خلال إنشاء اللجنة الفلسطينية، وهي لجنة تؤمّن نقل الحجاج في سفن شركة الملاحة الروسية التجارية إلى فلسطين· فارتبط مصير الإرسالية الثانية ونشاطها وإدارتها بمخططات التغلغل الروسي في السلطنة، وتمّ مولدها في ظروف غامضة مبهمة: فروسيا تريد مبدئياً تقوية نفوذها في فلسطين من خلال الإرسالية، ولكن هناك اختلافاً على الطريقة التي يتمّ بها ذلك، فالسنودس يتوقع أن تكون الإرسالية تحت إشرافه مباشرة، والخارجية لا ترضى بذلك للسنودس، وتتوقع أن تقوم هي بالإشراف عليها، بينما وجّه قسطنطين الأنظار إلى اللجنة الفلسطينية في شركة الملاحة لتقوم بدور السنودس والخارجية، ولم يتحمس وزير الخارجية لاقتراح قسطنطين ··· ولذا "ولدت الإرسالية الروسية الثانية وقد ساد الارتباك والفوضى أهدافها وولاءها"(86)· وها هو الخطأ نفسه الذي وقع فيه المسؤولون الروس حين قامت الإرسالية الروسية الأولى يتكرر: أي عدم تحديد الجهة المشرفة على الإرسالية، مما أدّى إلى إضعاف فاعليتها في عهد رؤسائها الثلاثة في القدس·
أ) الإرسالية الروسية في عهد كيرلّس ناخوموف (1857 - 1863) :
كان الأب ناخوموف استاذاً في كلية بطرسبورج الكنسية، وشغل أيضاً منصب مفتش الكلية، وعُرف بذكائه وسعة معلوماته وعدم خبرته بالسياسة والعلائق الدولية، فقد قضى حياته في البحث والدراسة· رُسِمَ ناخوموف أسقفاً على أثر تعيينه رئيساً للإرسـالية فـي 11حزيران 1857· وقبيلَ سفره أْعطيت له هذه التعليمات: "حفظ العلاقات الودية مع الإكليروس اليوناني الأورشليمي واحترام البطريرك أو من يقوم منابه· حفظ العلاقات نفسها مع رؤساء الطوائف وبنوع خاص مع بطريركية الأرمن· وألْقِيَ إليه بنوع أخص الإعتناء بالإكليروس الوطني وبالشعب الأرثوذكسي والاهتمام بتهذيبه وتربيته على أقوم المبادىء لحفظ الأرثوذكسية، التي كادت أن تكون اسماً بلا مسمى في فلسطين"(87)· ويبدو أن الإرسالية الثانية تجاوزت السلطات اليونانية وعملت مع العرب مباشرة، بخلاف الإرسالية الاولى التي التزمت بحد معين من التنسيق مع البطريركية، ويرى ستافرو في ذلك خرقاً للقانون الكنسي بما يخص صلاحيات الأساقفة المحليين(88)· ويؤكد هذا التطور في السياسة الروسية إزاء البطريركيات الشرقية تقرير لوزير الخارجية آنذاك: "يجب أن نرسّخ وجودنا في الشرق، ليس سياسياً بل من خلال الكنيسة، فلن يمنعنا من تحقيق ذلك العثمانيون أو الأوروبيون الذين لهم بطاركة وأساقفة في المدينة المقدسة· ولا نأمل أن تُحقق الإرسالية كما عهدناها في تنظيمها السابق شيئاً يُذكر، ولذا من الضروري أن يرأس الإرسالية أسقف وليس أرشمندريتاً، فالقدس هي مركز العالم وعلى إرساليتنا أن تكون موجودة هناك"(89)·
صُرف للإرسالية مبلغ 11000 روبل سنوياً، وتتألف من اثني عشر عضواً، أحدهم خبير بالشؤون اليهودية، وآخر بالشؤون التركية واليونانية· وقد غادرت البعثة بطرسبورج في تشرين الأول 1857، ووصلت القدس في 31 كانون الثاني 1858· وجرى "لأول أسقف روسي للعالم العربي في فلسطين"(90) استقبال رسمي في يافا، فرافقته ثُلّة من حرس الشرف والقنصل الروسي العام في بيروت ورهبان الأرمن واليونان والحجاج الروس، وفي الرملة استقبله ضابط تركي مع مجموعة من الفرسان، وخرج أهل القدس إلى أسوار المدينة لمشاهدة قدومه، فدخل المدينة كقائد منتصر· واتخذ الأسقف البيت الذي شيّده اوسبنسكي مسكناً له، وهو دير رئيس الأجناد السماوية مخائيل·
خشي الروس أن يُفسّر تعيين أسقف روسي في القدس دون طائفة على أنّه منصب سياسي· وعلى الرغم من هذا الاعتبار البالغ الحساسية بالنسبة للعثمانيين وبطريركية القدس، أصرّ القيصر على تعيين أسقف في القدس، على أن لا ينحصر مجال عمله في القدس بل يمتد إلى أنطاكية والإسكندرية·
نقلت الشركات الفرنسية والإنكليزية الحجاج الروس إلى فلسطين، وذلك يُفقد روسيا هيبتها في الشرق ويُضِرّ بنفوذها، فأرسل الغرندوق قسطنطين أحد رجاله ويدعى منصوروف (Mansurov) إلى فلسطين سنة 1857، ليعد له تقريراً حول الحج إلى الأماكن المقدسة· وجاء في التقرير أن سوريا وفلسطين حلبة صراع بين القوى الأوروبية، وروسيا غائبة عن هذه الحلبة، فيجب دعم حركة الحج إلى فلسطين لمقاومة النشاط الديني الغربي، وإعاقه حركة الاهتداء إلى الكثلكة أو البروتستنتية، وأن يجمع شخص واحد بين وظيفة القنصل ووكيل شركة الملاحة الروسية(91)· فلم يتحمس ناخوموف لأفكار منصوروف، ولكن الغرندوق أصرّ على تبنيها وحوّل تقرير منصوروف إلى الجهات المختصة، فأسفر ذلك عن تكوين اللجنة الفلسطينية في آذار 1858· فجمعت المدينة المقدسة آنذاك بين أسوارها إرسالية وقنصلية وممثل شركة الملاحة واللجنة الفلسطينية، وتولى المناصب الثلاثة الأخيرة القنصل نفسه· وتوّج الروس وجودهم في القدس بزيارة الغرندوق قسطنطين نيقولايفش في نيسان 1858، "بصورة رسمية ومعه زوجته الكسندرا وابنه نقولا، تخفرهم أورطة من الجنود الروسية، فضُربت له الخيام في رأس الميدان إلى الشمال الشرقي من بركة مأمن الله، ولم تكن أبنية خارج أسوار المدينة آنئذ"(92)· ثم اشترى الغرندوق قطعة أرض في ظاهر المدينة في منطقة الميدان المذكورة، عُرفت فيما بعد بالمسكوبية، واشترى غيرها في القدس وحولها· وشرعت اللجنة الفلسطينية في بناء ضخم، يضم كاتدرائية وبيت الإرسالية ومستشفى ومنزلين للحجاج·
حقق ناخوموف إنجازات ملحوظة في مجال خدمة الحجاج والأرثوذكس المحليين، ولكن الخلاف دبّ تدريجاً لتضارب المصالح والأهواء بين فعاليات البطريركية، بما فيهم اليونان والعرب والروس· فأخذ الرهبان اليونان يتّهمون ناخوموف بأنّه يعمل على "اغتصاب حقوقهم"(93) · وتفاقم الخلاف بينه وبين القنصل وشركة الملاحة واللجنة الفلسطينية، ويمثل الأطراف الثلاثة الأخيرة في القدس القنصل الروسي· وتعرّض الأسقف لحملة تجريح مسّت حياته الخاصة·
ولكن وساطة البطريرك كيرلّس حالت دون إقالته حالاً، فاستُدعي إلى روسيا سنة 1863، وأُقيل من منصبه وعُيّن رئيساً لدير هناك وتوفي سنة 1866· والنتيجة الملموسة للإرسالية الروسية الثانية في عصر ناخوموف أنّ الصراع برز بيّناً جلياً بين تيار التوسع الروسي في الشرق من جهة، ومن جهة أخرى تقهقر النفوذ اليوناني في البطريركيات الأرثوذكسية تحت الضغط الروسي·
ب) الإرسالية الروسية في عهد ليونيد كافلين 1863 - 1865
ألحّت الدائرة الآسيوية في وزارة الخارجية الروسية بعد عزل ناخوموف على تعديل نظام الإرسالية ليرأسها أرشمندريت، ويتولى مسؤولية القنصل الروسي رعاية الحجاج· فعُيّن الأب ليونيد كافلين (Leonid Kavelin) رئيساً للإرسالية، وقد عمل في السابق مع أوسبنسكي وناخوموف· فتولى منصبه في ربيع 1863، فحالف العرب وناهض اليونان واصطدم مع القنصل، "فأثبتت الخبرة أن التعاون بين الدبلوماسيين والإكليروس في القدس غير قابل للاستمرار، وأن الإرسالية كما تصورها جورشاكوف (وزير الخارجية) لن يُكْتَب لها الاستقرار"(94)· أما علاقة الإرسالية مع البطريركية فلم تكن أفضل منها مع القنصلية: "بيد أن هذا أيضاً لم يحافظ على حسن العلاقات بالكرسي البطريركي، وأظهر تصرفاً سيئاً نحو البطريرك الأورشليمي كيرلّس· فأوصل البطريرك الأمر إلى الحكومة الروسية فعزلته، وذلك في 13 نيسان 1865، وعيّنت مكانه الأرشمندريت انطونين كابوستين (Antonin Kapustin)· ولكن المجمع الروسي رفض عزل الأول وتولية الآخر، وذلك لأنه حسب أن مخابرة البطريرك كيرلّس للحكومة الروسية بهذا الخصوص دونه تحقير له ومخالف للواجب· وقضى على أنه لن تصدر موافقته إلاّ بعد أن يعتذر البطريرك عن هفوته ويُقدّم الترضية اللازمة· وهكذا صدع البطريرك كيرلّس بهذا الطلب الحق، وقدّم الترضية والاعتذار للمجمع المقدس في روسيا سنة 1867· والمجمع وافق على تعيين الأرشمندريت انطونين المذكور وصدّقه، فحضر إلى أورشليم واستلم زمام إدارة عمله في الإرسالية"(95)·
وفي سنة 1864 حلّ القيصر اللجنة الفلسطينية وأنشأ الوكالة الفلسطينية، وهي جهاز تابع للخارجية، ويشرف عليها وكيل السنودس المقدس ورئيس الدائرة الآسيوية ومنصوروف· وتابعت الوكالة أعمال اللجنة، فتمّ بناء مُجمّع المسكوبية في القدس ودُشّنت الكاتدرائية عام 1872·
جـ) الارسالية في عهد انطونين كابوستين (1865 - 1894):
عُيّنَ انطونين كابوستين بناءً على توصية من السفير الروسي في الأستانة اغناتيف (Ignatev)· ودرس انطونين في الجامعات الروسية وأتقن اللغتين اليونانية والألمانية، وعمل مدة خمسة عشر عاماً في السلك الدبلوماسي في أثينا والأستانة· "فنالت الإرسالية أخيراً قائداً لها يتمتع بالصفات والخبرة الضروريتين"(96)· وظلّ القنصل في القدس على عدائه للإرسالية وعَدّ كنيستها كنيسة قنصلية، ولكن انطونين تمتع بحماية صديقه الوفي اغناتيف ما دام في منصبه في الأستانة· فوجّه انطونين اهتمامه إلى أعداد الحجاج الروس التي أخذت في الازدياد سنوياً، وشجّع مجيء الرهبانيات الروسية إلى فلسطين، وقدّم الأراضي والأموال الضرورية للحجاج الذين يبغون قضاء بقية حياتهم في الأرض المقدسة، كما أشرف على عدة حفريات أثرية ساهمت في الكشف عن تاريخ البلاد المقدسة في جبل الزيتون والخليل· وبعد نقل اغناتيف من الأستانة وجد في القيصرة خير مموّل وظهير لمشاريعه، "فحتى عام 1872 كان قد اشترى ثلاثين موقعاً في فلسطين"(97)· ففي الخليل اشترى موقع بلوطة >ممرا< سنة 1868· وفي سنة 1866 اشترى أرضاً في بيت جالا، بنى عليها مدرسة للبنات، فكانت أول مدرسة روسية بكل معنى الكلمة في البلاد، وعيّن عليها مديرة روسية، وبلغ عدد طالباتها سنة 1880 ستين طالبة· وفي سنة 1886 تحوّلت إلى دار للمعلمات تحت إشراف الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية· وفي عين كارم بنى كنيسة ونزلاً للحجاج ومدرسة وديراً للراهبات الروسيات· أما كنيسته في يافا فقد دُشّنت قبيل وفاته بمدة وجيزة سنة 1894، وتميزت البنايات الروسية في فلسطين بجرسياتها العالية الشبيهة بالأبراج·
عاصر انطونين خمسة بطاركة في القدس· وتردّت العلائق بين روسيا والسلطات اليونانية في القدس أثناء الأزمة البلغارية التي أدت إلى عزل البطريرك كيرلّس سنة 1872· كما تمّ في عصره صدور أول نظام للبطريركية الأرثوذكسية الأورشليمية· وتأسست الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية سنة 1882، وهي الصيغة الجديدة التي حاولت روسيا من خلالها العمل في البطريركيات الشرقية بعد الأزمة البلغارية، فوضع نفسه في خدمتها· وأخيراً توارت الإرسالية الروسية الثانية وعلى رأسها كابوستين تاركة المجال للجمعية الإمبراطورية لتتابع اعمالها· وتوفي في آذار 1894، ودفن في جبل الزيتون في الكنيسة والدير اللذين شيدهما· فقضى بذلك 28 عاماً في خدمة بلاده في فلسطين· ولا شكّ أنه من أهم الشخصيات الروسية التي خلّفت أثراً ملحوظاً في فلسطين· وجاء في مراسلاته سنة 1879 ما يُشير إلى إنجازاته في فلسطين: "نبذتُ كل طموح في حياتي، وسعيت بكل كياني نحو هدف واحد، ألا وهو دعم واعلاء اسم روسيا في الأرض المقدسة، فلا نكوننّ هناك ضيوفاً وحسب، بل أصحاب حق"(98)· هذا ما سعت إليه روسيا دوماً وما رفضه الإكليروس اليوناني، وتفادى الطرفان المواجهة المكشوفة· وحاول كيرلّس البطريرك اليوناني، صديق الروس وكابوستين السياسي الروسي تلافي الصدام بين النفوذين الروسي واليوناني، ولكن إلى حين، فوقع كيرلّس ضحية الأزمة البلغارية، وعُزِلَ من منصبه سنة 1872، وردّ الروس بحجز أموال البطريركية وعقاراتها في بلادهم···
7 - القضية البلغارية وعزل البطريرك كيرلّـس 1872:
نما الشعور القومي اليوناني بقيادة البطريركية القسطنطينية المسكونية، التي منحها العثمانيون دوراً قيادياً بعد فتح القسطنطينية سنة 1453 بين البطريركيات والشعوب الأرثوذكسية الخاضعة للسلطنة العثمانية· كذلك نما الشعور القومي لدى الشعوب الأرثوذكسية غير اليونانية في القرن التاسع عشر، فسعت إلى التخلص من الحكم الكنسي اليوناني، واتّهم الإكليروس اليوناني بأنه يسعى إلى يَوْنَنَة الشعوب البلقانية من خلال الكنيسة، وتمّت هذه اليَوْنَنَة في القدس في مطلع العصر العثماني على يد البطريرك جرمانوس· والبلغاريون هم أول الشعوب التي تطلعت إلى الاستقلال الديني عن البطريركية المسكونية قبل حصولها على الاستقلال السياسي، إذ كانت ولاية عثمانية· وردّت البطريركية المسكونية على رغبات الشعوب بالتحرر، بأن الاستقلال الديني رهين بالاستقلال السياسي، فلا يجوز أن يستقل شعب ما دينياً وهو ما يزال مستعمراً سياسياً، وهذا ما تمّ في المملكة اليونانية فاستقلت سياسياً ودينياً سنة 1829·
لم تتخلّ روسيا للبطريركية المسكونية عن الدور القيادي، فموسكو هي روما الثالثة التي يسطع نورها على العالم· فنشطت في القرن التاسع عشر الحركة القومية السلافية (Panslavism)، وقادت شخصيات بهذه العقلية السياسية التوسعية الدبلوماسية الروسية في القرن الماضي، ومنها اغناتيف سفير روسيا في الأستانة· وفلسفة التيار السلافي القومي أنّ الشرق هو عالم سلافي - أرثوذكسي، وروسيا هي زعيمته، والهدف البعيد للتيار السلافي القومي تفتيت السلطنة العثمانية وتغذية الحركات الانفصالية لدى شعوبها على أساس قومي - ديني، وقيادة الشعوب السلافية - الأرثوذكسية تحت الراية الروسية· من هذا المنطلق وقفت روسيا بجانب الأرثوذكس العرب والبلغار في صراعهم مع السلطات الدينية اليونانية·
رأى السلافيون القوميون في حرب القرم ومعاهدة باريس نكسة للنفوذ السلافي، فكان هدفهم الأول إلغاء المعاهدة وإنعاش النفوذ الروسي الذي تداعى بعد حرب القرم· وأدى هذا التصعيد إلى نشوب الحرب التركية الروسية سنة 1877، وفرضت روسيا المنتصرة معاهدة سان ستيفانو في آذار 1778 على تركيا، محققة بذلك الطموحات الروسية السلافية· فحصلت صربيا ومونتينجرو ورومانيا على الاستقلال، وضمت روسيا جزءاً من رومانيا والقوقاس إلى حدودها· وأنشأت روسيا سنة 1858 >اللجنة الخيرية السلافية<، وضمّت كبار الشخصيات الروسية إلى عضويتها برعاية القياصرة ووزارة الخارجية والكنيسة، وأخذت على عاتقها مساندة الشعوب السلافية والأرثوذكسية دينياً وسياسياً· وأنفقت اللجنة على الطلبة السلافيين والأرثوذكس المبعوثين في جامعات روسيا ومعاهدها، ليعودوا إلى بلادهم وقد تسلحوا بالعلم والشعور القومي السلافي· وكان استقلال البلغار كنسياً سنة 1872، وسياسياً سنة 1878، ومولد القضية العربية الأرثوذكسية، والصلة التي قامت بين العرب والبلغار، وردود الفعل العنيفة في البطريركية الأورشليمية، عبارة عن حلقة من حلقات الصراع بين التيار القومي السلافي والتيار القومي اليوناني على الحلبة العثمانية المتداعية، والتي تهدف روسيا إلى الإسراع في سقوطها، بينما القوى الأوروبية الأخرى، فرنسا وبريطانيا تسعى إلى تقويتها والحفاظ عليها سليمة·
في القرن الحادي عشر تأسست الكنيسة البلغارية، وأصاب البلغار "ضغط مضاعف من الأتراك واليونان، ولم يكن مركز قومي يوحدهم كما كان يمكن أن يكون بطريرك ترنوفو، ففي مدى أربعمائة سنة عُبودية (منذ القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر) بلغوا إلى حالة بدأوا يخسرون معها مفهوم قوميتهم، وقد اعتنق بعضهم الإسلام تحت ثقل العبودية وانضموا إلى الأتراك· وكثيرون مثلاً: كل سكان المدن تحت ضغط اليونان المختلف الأشكال أنكروا قوميتهم وانضموا إلى القومية اليونانية، واللغة البلغارية لم تعد تستعمل في المدن مطلقاً وحلّت اللغة اليونانية محلها· وفي المدارس، إذا وجدت، صار تعليم اللغة اليونانية باليونانية· والخدمة الإلهية كانت تتم باللغة اليونانية ليس في المدن فقط بل في كثير من القرى· والكتابة باللغة البلغارية لم تعد موجودة إلاّ في وسط سكان المزارع· ولسبب الإهمال والضغط من كل الجهات كان عندهم مفهوم القومية ضعيفاً"(99)·
رعى التيار القومي والسلافي تحرر الشعب البلغاري دينياً وسياسياً· ووجد البلغار في خط همايون الصادر سنة 1856 أساساً للمطالبة بحقوقهم: "وعلى أساس هذه الوثيقة أتجه البلغار إلى الحكومة التركية طالبين أن يُعين لرؤساء كهنة أبرشياتهم معاش محدود حسب نص الخط الهمايون، بدلاً من الضرائب والجمع اللذين قيدهما بهما رؤساء الكهنة اليونان، فرفضت البطريركية القسطنطينية تلبية طلب البلغار المقدم اليها· عندئذ اتّجه البلغار من جديد إلى الحكومة التركية طالبين منحهم إدارة كنسية شعبية مستقلة عن بطريرك القسطنطينية، أو على الأقل أن يصير انتخاب رؤساء كهنتهم من البلغار وليس من اليونان"(100)·
رُفِضَ طلب البلغار فقرروا الانفصال رسمياً عن القسطنطينية، ومنع الوطنيون البلغار ذكر اسم البطريرك المسكوني في الخدمة الإلهية سنة 1860· ونشأت منذ ذلك الحين القضية البلغارية، وتوالت الاجتماعات بين الطرفين· وعرض اليونان على البلغار تكوين اكسرخوسية بلغارية خاصة للبلغار تحت رئاسة البطريرك القسطنطيني، وبعد مفاوضات فاشلة بين الطرفين تدخّلت تركيا سنة 1870: "فأصدرت فرماناً بشأن تنظيم الأعمال الكنسية في بلغاريا، وبموجبه عُرض تنظيم اكسرخوسية بلغارية منفصلة لأجل كل الأبرشيات البلغارية، ومنح الحق للأبرشيات المختلطة أن تنضمّ إلى الاكسرخوسية إذا كان كل سكانها أو على الأقل الثلثان يريدون ذلك· فلم تقبل البطريركية بهذا الفرمان وقبله البلغار، وشكّلوا اكسرخوسية سنة 1872، وأعلنوا بصورة احتفالية استقلال الكنيسة البلغارية عن البطريرك القسطنطيني"(101)· فأصرّ إذاً البلغار على الاستقلال فكان لهم ذلك، "وساعدهم اغناتيف سفير روسيا في الأستانة"(102)، واغناتيف من زعماء التيار السلافي القومي آنذاك·
دعا البطريرك القسطنطيني بطاركة الإسكندرية وأنطاكية ورئيس أساقفة قبرص إلى مجمع في القسطنطينية في صيف 1872 للنظر في القضية البلغارية· أما كيرلّس بطريرك القدس، فقد اتّهِمَ منذ تنصيبه بميوله نحو روسيا· "أدى طموح كيرلّس وميله إلى الحكم الفردي المطلق إلى تصعيد الخلاف مع أخوية القبر المقدس· وبمرور الزمن تورّط كيرلّس بمخططات اغناتيف السلافية القومية"(103)· وعلى الرغم من ذلك وقف بجانب اليونان في القضية البلغارية، وتمت مراسلات بين البطريركين الأورشليمي والقسطنطيني، وأكّد فيها الأول شجبه مطالب البلغار(104)· وأكّد بطريرك روسيا والسنودس الروسي للبطريرك القسطنطيني حسن نيتهما في النزاع البلغاري اليوناني(105)· ويتفادى بابادوبولس اتهام البطريرك كيرلّس بخيانة القضية اليونانية، ويصفه أنه >البطريرك الشيخ< الذي وقع ضحية دهاء اغناتيف الذي هدده بحجز أموال البطريركية في رومانيا، وأغواه بتنصيبه بطريركاً على القسطنطينية في حالة فوز البلغار بمطالبهم، وقد يصير الكرسي البطريركي القسطنطيني من نصيب البلغار· ورتب أغناتيف زيارة الغرندوق نقولا إلى القدس في الوقت الذي يعقد فيه مجمع القسطنطينية( 106)، وقد مرّ الغرندوق على الأستانة في طريقه إلى القدس، وزار كيرلّس في الأستانة وقرر مرافقته إلى القدس·
حضر كيرلّس الجلسة الأولى من جلسات المجمع، وامتنع عن التوقيع على حرمان البلغار، وهو السلاح الأخير الذي لجأ اليه البطريرك المسكوني· ونسب المجتمعون إلى البلغار "الهرطقة التي دعيت >بدعة الفيلتزم< وأوجبوا الحرم على رؤساء أساقفتهم"(107)· والحرمان لم يكن الحل الأفضل للقضية البلغارية، فقد وصلت القضية البلغارية إلى درجة لا يمكن حلها بمزيد من الحرمانات، حتى ولو كانت قانونية(108)· وقد رفض كيرلّس توقيع قرارات المجمع، "ولم يُسمح لمرافقه بنيامين يوانيذي أن يحضر جلساته، وكان يتحفز للرجوع إلى مقر بطريركيته لأجل استقبال الغرندوق نقولا الروسي الذي كان متوجها لزيارة المحلات المقدسة"(109)· فطلب انثيموس البطريرك المسكوني منه أن يبقى في الأستانة للاشتراك مع الكنيسة في حل قضية البلغار، أو على الأقل أن يُعيّن وكيلا عنه لهذه الغاية، فأجابه برسالة جاء فيها ما نصّه: "إن فكرنا بخصوص القضية البلغارية قد صرحنا به شفاها لسمو قداستكم أثناء محادثتنا في هذا الشأن، وبما أن القضية تستدعي إلى أهمية عظيمة، لهذا عولّنا على التوجه إلى القدس الشريف، وهناك عند وصولنا سنتداول البحث مع مجمعنا المقدس ونخبركم بما نقره"(110)· يصف كتاب مطبوع في القسطنطينية سنة 1873، ويعرض الكتاب النظرة الروسية في القضية البلغارية، بأن كيرلّس "وقع ضحية القضية البلغارية بتفانيه لمصلحة الدين العليا، الذي لا يعلم الكراهية والانقسام بل الإنسانية والمحبة"(111)· وفي موضع آخر يقول: إن الجو السياسي ساد إجتماع القسطنطينية وليس تعاليم الانجيل(112)· ونعت كيرلّس أعداؤه بيهوذا الاسخريوطي، ووصفوا البطريرك الطيب بلقب >كيرلّس السيء الشرير< Cacocyrille) ( 113 )·
ووصلت أخبار معارضة كيرلّس على قرارات حرم البلغار إلى القدس، وما زال كيرلّس والغرندوق في طريقهما إليها· فاجتمع أفراد الرهبنة والسنودس الأورشليمي وبلّغوا موقفهم المؤيد للقسطنطينية برقياً إلى المجمع القسطنطيني، وخلاصة ما قرروه هو: "إنهم ثابتون في المحافظة على القوانين والاعتقادات الموجودة في الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، وأنهم يصادقون على مقررات المجمع المذكور· عادّين كل مخالفة لها غير قانونية وقبيحة"(114)· أما قرار المجمع القسطنطيني بحرم البلغار فقد صدر في 7/11/1872، فانشق البلغار عن البطريركية معلنين استقلالهم·
وبعين ساهرة، رعى أغناتيف وصول البطريرك والغرندوق إلى القدس· وكان على علم أكيد بموقف الأخوية ومخابراتها مع المجمع القسطنطيني· فأوصى اغناتيف القنصل الروسي في القدس كوزيفنيكوف بالتعاون مع الأب انطونين رئيس الإرسالية الروسية، وأن يكون استقبال البطريرك فخماً لأقصى الحدود، وأن يحاول كسب العرب إلى جانب البطريرك ضد الأخوية(115)· ولكن ما دام الغرندوق في القدس لا يجرؤ الرهبان على مناهضة البطريرك، وهو يتمتع بحماية أحد أعضاء العائلة المالكة الروسية· في هذه الأثناء تمّ تبادل سيل من البرقيات بين الأستانة وبطرسبورج ودمشق والقدس، وحثّ اغناتيف في برقياته هذه عملاء روسيا في المنطقة على تعبئة الرعية العربية ضد بطريرك أنطاكيا اليوناني، وإعلان الانشقاق عن البطريرك المسكوني كنوع من الضغط على الأخوية· وفي 22/7/1872 أبرق القنصل الروسي في القدس إلى أغناتيف مصرحاً: "لا نبني آمالاً كبيرة على العرب، فإنّهم مُعرّضون لمؤامرات خارجية ولا يميلون إلى كيرلّس" (116)· وفي مطلع تشرين الثاني 1872 توجّه البطريرك والغرندوق لتدشين كنيسة في اللد، وحاول القنصل استمالة العرب لصالح كيرلّس· وعلى الرغم من كل المحاولات الروسية قرر المجمع خلعه في تشرين الثاني، وكان الغرندوق قد غادر فلسطين إلى بلاده· وإن لم ينجح الروس والعرب في منع اقالته، "فإنّ ما أقدمت عليه روسيا خلق وعياً عربياً أرثوذكسياً، وأوجد رغبة عربية في الاشتراك في أمور البطريركية· فقد بدأت القضية العربية الأرثوذكسية الوطنية من تاريخ إقالة كيرلّس"(117)· وجاء في قرار المجمع الأورشليمي في 12/11/1872: "بما أن غبطته خالف محتويات التحرير المجمعي المؤرخ في 24 كانون الثاني سنة 1869، والذي أُرسِل إلى كنيسة المسيح الكبرى (القسطنطينية)· وتصرف بطريقة استبدادية ليس فقط في القسطنطينية حيث لم يوافق مقررات المجمع المقدس الكبير المنعقد في "مساخوريون" (محلة من إستنبول تدعى اورطة كوبي)، بل وهنا في أورشليم امتنع عن التفاهم معنا نحن أعضاء المجمع المقدس وأخوية القبر المقدس وعن موافقتنا فيما قررناه في اجتماع محلي· فبناء عليه ووفقاً للقانون نعتبر غبطته تحت المجازاة ومنقسماً عن الكنيسة· ونحسب ذواتنا مفكوكين عن يمين الطاعة الذي أقسمناه له· ومنذ الآن نقطع بيننا وبينه كل علاقة، فلا نشترك معه في القداس، ولا نعتبره راعياً ورئيساً قانونياً"(118)· وفسّر اغناتيف قرار السنودس القطعي بخلع كيرلّس بأنّه مؤامرة تركية اشترك فيها قنصلا ألمانيا وبريطانيا في القدس· وساند العرب البطريرك المخلوع: "أمّا الشعب الأرثوذكسي الوطني فإنّه أْلْفَى البلغار قوماً يشكو مثل شكته من التغلب اليوناني فلمّا خُلِعَ البطريرك هبّ هذا الشعب إلى نصرته، ويقال أن القدس قاطبة فاضت هيجاناً واضطراباً، وهاجمت العامة الأرثوذكسية الرهبان في الشوارع، وضربوا حول الدير المركزي نطاق حصار دام أياماً· وقطع المسيحيون الوطنيون كلّ صلة بالأخوية، فامتنعوا عن شهود المراسم الدينية واحتلوا بعض الأديرة، ومنعوا الاتصال بين الدير المركزي والقبر المقدس عن طريق كنيسة مار يعقوب"(119)·
لم تثمر محاولات اغناتيف في الضغط على تركيا لتثبيت كيرلّس في منصبه· وظل الثقل العربي الأرثوذكسي في القدس ضعيفاً(120)· فلجأ اغناتيف إلى الحل الأخير وهو الضغط مالياً على الأخوية، فأمر بحجز أموالها وأوقاف القبر المقدس في روسيا في 27/11/1872: "فأبرق السفير الروسي في إستنبول الكونت اغناتيف إلى بطرسبورج طالباً من الأمير جورشاكوف أن يُبرِق بدوره إلى الأرشمندريت بطريكيوس نائب البطريرك الأورشليمي في مدينة كيسشينيوف في بساربيا، لكي لا يعود يرسل شيئاً من حاصلات الكرسي الأورشليمي في روسيا إلى أورشليم بل يودعها أحد البنوك الروسية لتُحْفَظ فيه، ريثما تُحل أزمة الكنيسة الأورشليمية والرهبان· ثم بعد ذلك استناداً على أمر قيصري أمرت الحكومة الروسية بحجز حاصلات أملاك الكرسي الأورشليمي في روسيا غير المنقولة، ومعظمها في بساربيا والقوقاس"(121)·
الضغط الروسي لم يثمر في تعديل موقف الأخوية· وأقرت الأستانة عزل كيرلّس في 18/ 12/1872، وفي اليوم عينه أمر نظيف باشا متصرف القدس بإرساله محفوظاً إلى الأستانة· وانتخبت الأخوية بروكوبيوس الثاني بطريركاً فثبتته الأستانة· وظل العرب ينظرون إلى كيرلّس على أنه بطريركهم الشرعي· ولم يَسْرِ حجز أموال البطريركية على الطائفة العربية: "وقد علم أرثوذكسيو فلسطين الوطنيون بهذا (أي حجز الأموال) فأرسلوا يطلبون من الكونت اغناتيف بأن يعطي لهم جانباً من تلك الواردات، لكي يتمكنوا من مقاومة أعدائهم الرهبان الذين ينفقون المبالغ الطائلة لأجل تثبيت مراكزهم، بينما الوطنيون لا يملكون من المال ما يساعدهم على المطالبة بحقوقهم المغتصبة وتثبيتها· وهكذا تعيّن مبلغ عشرة آلاف روبل لتدفع سنوياً ليد البطريرك كيرلّس الأورشليمي، الذي كان بالاتفاق مع رئيس كتبة المجمع المقدس نيكيفورس يدافع عن الحقيقة والعدل في جانب الوطنيين ومقاومة الرهبان المغتصبين"(122)·
ظل اغناتيف يُمَنّي كيرلّس بالعودة إلى كرسيه، إلاّ أن نشوب الحرب الروسية التركية سنة 1877 قضى على كل أمل له في العودة إلى فلسطين· فتوفي في آب سنة 1877، "ودفن في امطوش القبر المقدس على بوغاز البسفور، بعد أن قضى خمس سنوات في الأستانة لم يفه أثناءَها بكلمة مذمة ضد الأخوية، التي انخرط في سلك أعضائها سنة 1814 وعاش فيها مدة ثلاثين سنة ثم ترأسها مدة ثلاثين سنة أخرى قضاها على كرسي البطريركية"(123)·
خاتمــة
انتصرت روسيا بتنصيب كيرلّس بطريركاً في القدس سنة 1845· وهُزِمَتْ بخلعه سنة 1872· نصبته بدعمها ورعايتها، وخُلِعَ على الرغم منها· وخسر اليونان في مواجهة البلغار، وسوف يخسرون في مواجهة أخرى بين النفوذين الروسي واليوناني في بطريركية أنطاكية بعد عقدين من الزمن· بيد أن الأخوية لن تُساوم ولن تستسلم في بطريركية القدس: فالبطريركية هي الأخوية والأخوية هي بطريركية الأماكن المقدسة· ويمسك الرهبان بزمام الأمور بيد من حديد، فأخفقت الإرسالية وهي رأس الجسر الروسي في بلاد الشرق في زحزحة الوجود اليوناني في فلسطين، واصطدمت بالأخوية التي دافعت بضراوة عن كيانها، وخلعت بطريركها الذي أصغى إلى النصائح الروسية ولم يأخذ بوجهة النظر اليونانية· وسيُبدل الروس صيغة عملهم في الشرق بإنشاء الجميعة الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، فيربحون في احداث سوريا ويخسرون مرة أخرى في فلسطين·
وكانت حصيلة العلائق الروسية الفلسطينية حتى عام 1872 قيام "المسألة الوطنية بعد أن هبّت من مرقدها فظلّت تجيش عديد السنين"(124)· وحتّم الصراع بين فعاليات البطريركية محلياً ودولياً صدور سلسلة من القوانين، وهذه القوانين والمسألة الوطنية موضوع الفصل القادم·