herusalemcover.JPG (30056 bytes)الباب الثاني: البطريركية اللاتينية الأورشليمية



الفصل الرابع
البطريرك منصور براكّو
1873 - 1889



مقدمــة

تركت وفاة المنسنيور فاليركا المفاجئة في 2/12/1872 فراغاً كنسياً على الساحة الفلسطينية، فقد شغل البطريرك المُتوفَى منصب بطريرك القدس مدة ربع قرن، وكان فاليركا شخصية الكرسي الرسولي البارزة في الشرق، فهو القاصد الرسولي لسوريا، والصوت المسموع وصاحب الرأي المرجّح في المجمع الفاتيكاني الأول بما يخص الكنائس الشرقية وسياسة الكرسي الرسولي في السلطنة العثمانية· أما فرنسا حامية الكثلكة التقليدية في الشرق، فلم تكن راضية مبدئياً عن اختياره لمنصب بطريرك القدس لكونه سردينياً، فرضيت به على مضض: "إنّ موقف فاليركا صار أكثر استقلالية في السنوات الأخيرة، وغدا يتعامل مباشرة مع تركيا، ولذا أبدت وزارة الخارجية الفرنسية اهتماماً خاصاً في انتخاب خليفته· فكان يفضل أن يكون فرنسياً، أو على الأقل موالياً لفرنسا ويحترم المعاهدات(1)· فأوصى وزير الخارجية الفرنسية سفير فرنسا لدى الكرسي الرسولي أن يلفت انتباه السلطات الرومانية إلى أن غالبية ممثلي روما في السلطنة العثمانية إيطاليون، وما تخشاه فرنسا أنه في حالة تطبيع العلائق بين الملك فكتور عمانوئيل والكرسي الرسولي سيسيء ذلك لمصالح فرنسا السياسية في الشرق"(2)· فبعد وفاة البطريرك بأيام، في 8/12/1872 رفع القنصل الفرنسي كرامبون (Crampon) في القدس تقريراً إلى وزير الخارجية ينتقد فيه البطريرك المتوفى: "لقد اتخذ (البطريرك) مواقف ومبادرات غير مقبولة لدينا بأن فاوض تركيا في بعض المصالح دون الرجوع إلينا، وبالغ في الاعتماد على قواه الخاصة دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن إلغاء حمايتنا للكاثوليك في الشرق التي حُدِدَت بالمعاهدات، وإن أي مس وتغيير في هذه الحماية بتحويلها إلى حماية جماعية دون فائدة وفاعلية، سيجعل المصالح اللاتينية في الشرق أُلعوبة بيد الاتراك، وعلى المدى البعيد بيد الروس"(3)· فانتخاب خليفة البطريرك فاليركا فرصة سانحة للدبلوماسية الفرنسية لأن تستعيد ما فقدته عام 1847 بتعيين البطريرك فاليركا (4).
تداخلت مصالح الدبلوماسية الفرنسية بمصالح رئيس أساقفة الجزائر المنسنيور لافيجيري (Lavigerie) مؤسّس جمعية الآباء البيض· فقد شارك لافيجيري فرنسا همّها حول تطبيع علائق الكرسي الرسولي مع الحكومة الإيطالية، مما يؤدي إلى سيطرة العناصر الإيطالية على مسرح الأحداث الكنسية في الشرق(5)· أما مبادؤه الكنسية فهي: أن تتأقلم الكنيسة مع الثقافات الشرقية ومقاومة اللتْنَنَة، فبالنسبة إليه إن رجوع جماعات مسيحية مُنْشقّة إلى الكثلكة يتمّ من خلال اتحادها بروما، مع الحفاظ على طابعها الشرقي وليتورجيتها الشرقية، وليس بانضمامها إلى الكنيسة الكاثوليكية مـن خـلال الليتـورجية اللاتينية وكــوادر المـرسـلين اللاتين· انطـلاقـاً مـن هذه الركائز السياسية والدينية، رشّح المنسنيور لافيجيري نفسه بطريركاً للقدس(6)· وقد رأى أن سياسته الكنسية المشرقية قد تتحقق في البطريركية اللاتينية في القدس· وفي روما لم يُرَحّبْ بترشيح لافيجيرى، فنظرة الكرسي الرسولي لبطريركية القدس مغايرة لمفاهيمه: "على البطريركية اللاتينية أن تظل مستقلة تجاه تنافس الدول القومي، وهذا الحياد لا تحققه إلاّ شخصية إيطالية تدين بالولاء للبابا فقط"(7)· فوجد الفاتيكان أن هذه الشروط لا تتحقق في المرشح الفرنسي المتقدم فسحب لافيجيري ترشيحه(8)، "فرفض بيوس التاسع عرض الأسقف الفرنسي المُغْرِض، وعيّن مساعد البطريرك المتوفى الإيطالي منسنيور براكّو بطريركاً" (9).
ولكن الدبلوماسية الفرنسية لم تيأس من محاولة أخيرة لتعديل القرار الفاتيكاني، ففي تقرير خاص حول البطريركية أعدّه قنصل فرنسي سابق في القدس وهو آدام سينكيفيه (Adam Sienkieviez) في 6/1/1873، يقترح بأن تُعْهد الإدارة الكنسية لمجلس يرأسه البطريرك، وأن يُحافَظ على امتيازات الكهنة الفرنسيين في دير القديسةحنّه بالقدس والسماح للآباء اليسوعيين بالعمل في فلسطين، وقد حال دون ذلك المنسنيور فاليركا، وأن يُعْطَى للوجود الفرنسي الذي مركزه دير القديسة حنّه امتيازات خاصة· وبناء على هذا الكتاب وجّه وزير خارجية فرنسا آنذاك كتاباً إلى السفير الفرنسي في روما، ليتحرك في ضوئه في قضية خلافة فاليركا· وأضاف الوزير ملاحظة بخط يده جاء فيها: "من المؤكد أنّ البطريرك على الرغم من صفاته الحميدة لم يكن مؤيداً لفرنسا وإنّ سلطات الكنائس اللاتينية في الشرق تتكون من أغلبية إيطالية وإسبانية، والنفوذ الفرنسي يسير نحو الانحطاط··· واعتقد أنّ مصلحة الكرسي الرسولي أنْ تظلّ حماية اللاتين في الشرق بيد فرنسا، ومن المستحسن أن يحقق تعيين البطريرك الجديد هذه المقولة" (10).
أسفر انتخاب البطريرك منصور براكّو عن إخفاق ذريع في الدبلوماسية الفرنسية وأحلام لافيجيري، بل وعيّن الكرسي الرسولي قاصداً رسولياً لسوريا خلفاً لفاليركا الفرنسيسي لودفكو بيافي الإيطالي الجنسية غير المقبول في الأوساط الفرنسية(11)· أما ردّ الفعل الفرنسي، فكان تقوية وجود الرهبنة الفرنسية الآباء البيض في القدس لدعم النفوذ الفرنسي تجاه البطريرك الإيطالي(12)· ومن هذا المنطلق ستَحْتَضِن الحكومة الفرنسية وجمعية الآباء البيض معهد الروم الكاثوليك الإكليريكي في دير القديسة حنّه، وترعى كيان الروم الكاثوليك في فلسطين·
بعد أن أخفقت فرنسا في احتواء البطريركية وإدراجها في برنامجها السياسي الشرقي، تابع الفاتيكان دعم الكيان البطريركي بانتخاب المنسنيور براكّو بطريركاً، مع الحفاظ على مقولة حماية فرنسا للكثلكة دون احتواء ومس استقلالية البطريركية وتبعيتها المباشرة لروما· وسيرة البطريرك الجديد تدل على أنّ انتخابه لم يكن مجرد صدفة، فقد اعدّه فاليركا الإعداد الحسن وقربّه إليه وحضّره منذ زمن بعيد ليتسلّم منصبه ويتابع المسيرة التي بدأت عام 1847·
ولــد منـصور براكّو فـي قـريـة تورّاتزو (Torrazo) في إقلـيم بورتو موريسيو في 14 ايلول 1835· درس في قريته المرحلة الدراسية الإبتدائية، وبعدها "اضطّر أن يتوقف في جادة دروسه المحبوبة، لما كان عليه أبوه من الرزق الكفاف الذي لم يُمكنّه من إرسال ولده إلى إحدى كليات المملكة طلباً للعلوم العالية، وعليه فاقتضى لمنصور أن يعكف على أشغال الحقل والزراعة التي تنحصر فيها معيشة أهله وسكان بلدته"(13)· وأخيراً تمكن في تشرين الأول سنة 1854 أن يدخل مدرسة البنغا الإكليريكية حيث أكبّ على دراسة اللاهوت· ومن مدرسته، "بعث بكتاب إلى رفيق له مقيم في مدرسة >برينيولي ساله نيكروني< بجينوا يطلب منه أن يخاطب رؤساء تلك المدرسة في شأنه لعلهم يأذنون له بدخول المدرسة والانضمام إلى عداد الطلبة· فأتاه الجواب على طبق المراد· وفي اليوم الرابع من حزيران سنة 1855، طوى بساط الإقامة في مدرسة البنغا، وفي الغد دخل مدرسة جينوا"(14)· وفي عام 1860 انضمّ إلى الإكليروس البطريركي وعيّن معلماً للاهوت في المعهد الإكليريكي، وعام 1862 غدا رئيساً للمعهد، وتمّ تسميته أسقفاً مساعداً عام 1866: "فوجّه والحالة هذه أفكاره (فاليركا) إلى طلب معاون له وقد صار الاحتياج إليه عظيماً· ولكن أين يجد الرجل المجبول على وفق قلبه أو بالحري على وفق قلب الله؟ من يهديه الى معرفة الرجل الجدير الحقيق بهذه الرتبة الشريفة القدر؟ فبينا هو يسرح البصر ويطيل النظر إلى إكليروسه القليل العدد، ويعرض خصال كل من كهنته على ميزان العقل الصحيح والنقل، إذْ وقع نظره على رئيس مدرسته فاستقرت عينه عليه وقرّت"(15).
بعد أن ارتسم براكّو أسقفاً احتفظ بمنصب رئيس المعهد الإكليريكي· وعن تعيينه بطريركاً جاء في سيرة حياته: "أن الأب الأقدس بيوس التاسع ذا الذكر السعيد، قد نادى به بطريركاً على أورشليم في مجمع الكرادلة الملتئم في 21 آذار 1873"(16)· وفي عصـره كـانـت صـلات البـطريـركـية بحـراسـة الأراضـي المـقدسة >ممتازة<(17)· وسار البطريرك الجديد على خطى سلفه، فلم يحافظ المنسنيور براكّو على تركة سلفه وحسب، بل حقق أفكاره ونفّذ مخططاته، وبوسعنا القول: "إن المنسنيور فاليركا لا يزال مهيمناً على مصير البطريركية"(18)· وفي عهد المنسنيور براكّو الذي دام حتى عام 1889، أسّس إحدى عشرة إرسالية في فلسطين والأردن، وأدخل إلى فلسطين اثنتي عشرة جمعية رهبانية· ويشمل هذا الفصل ثلاثة أقسام هي :
- رعايا البطريركية في شرقي الأردن وفلسطين·
- الجمعيات الرهبانية في عهد البطريرك منصور براكّو(19).
- البطريركية اللاتينية الأورشليمية في نهاية القرن التاســع عشر ومطلع القرن العشرين - عصر ما بعد براكّو·

horizontal rule

1 - رعايا البطريركية في شرقي الأردن وفلسطـين :
أسّس المنسنيور براكّو إحدى عشرة إرسالية منها أربع في فلسطين وسبع في الأردن· ورعية السلط التي أسِسَت عام 1866 كانت المنطلق لفتح الرعايا الجديدة في الاردن، فالسلط هي المدينة الكبرى في شرق الأردن: "وكم قاسى من تعب لأجل رسالة السلط لعلمه بأهمية توطيد دعائم الرسالة المذكورة باعتبار كونها باباً ومركزاً لجميع البلاد التي في عبر الأردن· فلم يحجم عن معاناة الفكر والمعارك المستطيلة من جرّاها، ولم يدّخر نفقة لنجاحها حتى كان يجيب المرسلين الذين يأتونه في التماس بعض المعونة لهذه أو تلك الرسالة قائلاً: "عليكم بالصبر فإنّ السلط تستنفذ الآن كلّما تملكه يميني"(20)· فقد ضاعفت البطريركية جهودها في الأردن الذي يفتقر إلى الوجود الكاثوليكي، بينما فلسطين تنعم بعدد وافر من أديار الرهبنات ومدارسها·
أ - إرسالية رميمين :
اتصل سكان رميمين وهم من عشيرة الصايغ بكهنة البطريركية في السلط المجاورة لقريتهم· فزار القرية عام 1869 الأب كودرك والأب موريتان عام 1870 الذي يصفهم في مذكراته: "رميمين ضيعة صغيرة على بعد مسيرة ثلاث ساعات شمالي السلط، سكانها ليسوا أغنياء ولكنهم ميسورو الحال بصفة عامة، ومنذ عدة سنوات طلب أهل رميمين الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية وأن يستقر كاهن في قريتهم ونبني لهم كنيسة، ودعتني عشيرة الصايغ إلى إقامة القداس عندهم يوم الأحد"(21).
ولماّ زار المنسنيور فاليركا الأردن عام 1872 قادماً من دمشق استقبله في حوران شيخان من رميمين والفحيص طلبا منه مرسلين لقريتيهما، فلم يستطع تلبية طلبهما لقلة الكهنة، فأتمّ المنسنيور براكّو وعد سلفه، إذ انتدب الأب چاتي في السلط ليتردد على رميمين بانتظام· وقد واجه المرسلون صعوبات جمة: فالطرق وعرة والأمراض متفشية وعقلية القرويين بدائية، ويذكر فللانيس رميمين بقوله: "كانت البلدة في نهاية الفقر والوخامة، وكان البطريرك لا يمكنه أن يتوسع بالنفقة لتلك الرسالة، وجب على المرسل المزمع على الذهاب إلى هناك أن يعيش في حجر القشف والضناكة، ومن ثم كتب البطريرك إلى الأب الجليل يوسف چاتي خوري السلط ما مآله: إني التمس كاهناً غريباً لأسند إليه تلك الرسالة لأنه يصعب عليّ مزيد الصعوبة أن أرسل إليها كاهناً قد سبقت له في عمل الرسالات أتعاب تُثاب، ولا يمكنني العزم على تكليفه مثل هذه المشقة"(22)· بلغ عدد سكان القرية اللاتين نحو 150 نسمة تقريباً، واستقرّ أخيراً في القرية عام 1877 الأب تيوبولد نافوني (Theobold Navoni) ، بعد شراء الأرض وبناء بيت صغير للكاهن· لم تطل إقامة الأب نافوني في القرية لانتشار الملاريا فَنُقل إلى الفحيص، وعين الأب فيلكس سوداح خليفة له عام 1878· وصاحب قدوم الأب سوداح تفشي الأمراض ووفاة عدد من سكان القرية، فربط القرويون بين قدوم الكاهن وتفشي الأمراض على أنه نذير شؤم في القرية، مما اضطرّه إلى الرجوع إلى السلط ثانية· ولم تستقر أوضاع الإرسالية الا بعد حادثة محزنة ألمّت بالقرية، ففي عام 1882 قُتلت صبية من رميمين تزوجت على الرغم من معارضة والدها وهربت إلى مادبا، فسُجِن والد الفتاة ووجهاء عشيرة الصايغ وضيّق العسكر التركي على قرية رميمين، وأوشكت مجزرة أن تقع لولا تدخل چاتي لحماية القرية، فقدرت عشيرة الصايغ موقف البطريركية بجانبها في أوقات الضيق، وتوطدت أواصر الصداقة بين الرميميين والبطريركية(23).
ب - إرسالية الفحيص :
لم يكن دافع الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية دوماً الاقتناع العقائدي، والكنيسة تعترف بهذا الواقع: "إن الاهتداء الحقيقي إلى الكنيسة الكاثوليكية يتمّ فيما بعد، بمرور الزمن وبمعاشرة الكهنة في الجيل الأول والثاني"(24)· أي أن البطريركية تضع أملها في الأجيال الصاعدة من أبناء المنضمين إليها، وعلى هذا الأساس قبلت البطريركية بانضمام عائلات أو قرى بأكملها الى الكثلكة، مع علمها المسبق بعدم جدية مثل هذه الظاهرة· ونلمس في مراسلات كهنة البطريركية في الأردن في تلك الحقبة نوعاً من الالتزام الإنساني والمحبة الصادقة لهؤلاء المسيحيين المتروكين، وحثّ الكهنةُ البطريركَ على العمل على إنقاذ المسيحيين من المجاعات والفقر والجهل·
واستقرّ سكان الفحيص وهم أصلاً من السلط في منطقة الفحيص المجاورة للسلط، وبنوا هناك بلدتهم، ويذكر الأب چاتي في رسالة إلى البطريرك في 5 آذار 1873 أنّ عدد اللاتين في الفحيص سبعون شخصاً، ويطالب الأب چاتي ببناء مدرسة وفتح إرسالية في القرية، وافتُتحت المدرسة الصغيرة عام 1874· ويذكر البطريرك القرية في تقرير له لمجمع نشر الإيمان في تشرين الثاني 1874: "عدد سكان الفحيص 400 نسمة منهم تقريباً 140 انضموا إلى الكنيسة الكاثوليكية"(25)· وقابل وجهاء عشائر الفحيص البطريرك وطلبوا الانضمام إلى البطريركية، فاشترط عليهم البطريرك أن يقدموا طلباً خطياً يوقعه وجهاء القرية فلبوا طلبه(26)· وعُيّنَ الأب نافوني مرسلاً في القرية، وفي عصره ازدهرت الرعية: "ونسي الفحيصيون كباراً وصغاراً خلافاتهم القديمة، واجتمعوا معاً لحضور قداس يوم الأحد"(27) · وشكّلت عشيرة حتر نواة الرعية اللاتينية في الفحيص·
وفي عصر الأب نافوني نمت الرعية، إذ زاد عدد الوافدين من السلط للاستقرار في الفحيص وبُنيت كنيسة صغيرة ودير للكاهن· لكن واجه الأب نافوني المشاكل مع القطاع النسائي في القرية فكتب للبطريرك في 1 تشرين الثاني 1880: "إنّ النساء لا يدخلنّ الكنيسة، وعندما وصلت إلى القرية هرع الرجال لاستقبالي وتجمعت النساء معا يطلقنّ الزغاريد التقليدية احتفاءً بي، ولما دخلنا إلى الكنيسة رجعنّ إلى بيوتهنّ وتبعني الرجال فقط"(28)· وكذلك اقتصرت المدرسة على الذكور، ولم تندمج النساء في الرعية إلاّ بعد ست سنوات بالتحاق راهبات الوردية بالإرسالية، فعملنّ على تثقيف النسوة وفتح مدرسة للبنات·
دام السلام والوئام في الفحيص حتى سنة 1886، فقد توصل الأب نافوني إلى استيعاب الخلافات واستقطاب زعماء العشائر المتنافرة لخبرته بمثل هذه الشؤون· ففي آذار 1885 نُقِلَ الأب نافوني إلى الحصن، وحلّ مكانه كاهن شاب هو الأب يعقوب عواد فلم يسيطر على الوضع وانجرف في تيار الخلافات العشائرية، ويبدو أنّ الأب يعقوب تحزّب لعشيرة دون الأخرى· فحاول الأب چاتي إصلاح ذات البين في الرعية، فكتب إلى البطريرك في 4 شباط 1886: "أرجوك أن تقول للأب يعقوب أن يصغي إلى نصائحي ويثق بي، وأخشى عما قريب أن تحلّ بالإرسالية كارثة ويَنْشَق قسم من المؤمنين عن الكنيسة"(29)· تمّ نقل الأب يعقوب من الفحيص في ايار 1886، ولكن الخلاف تفاقم وتحولت بعض العشائر الكاثوليكية إلى الأرثوذكسية من جديد· فإرساليات البطريركية في تحرك دائم، وأي خلاف عشائري أو عائلي يسفر عن انشقاق بعض العائلات وانتمائهم إلى كنيسة أخرى، كنوع من الانتقام العشائري من الطرف الآخر·
جـ - إرسالية الكرك :
تقع الكرك جنوبي الأردن ولم تخضع للحكم العثماني المباشر الا في فترات قصيرة، حيث أن سكانها من البدو والحضر الذين لم ينصاعوا بسهولة للحكم العثماني· وأقوى عشائر الكرك التي فيها الزعامة عشيرة المجالي· وقد حرّر المجالي الكرك من سيطرة البدو وتحرشهم بالمزارعين والسكان· وقد حلّ المجالي في الكرك في القرن السابع عشر وافدين من الخليل وهم من بني تيّم· وذكر بيركهارت في كتاباته الكرك التي زارها في مطلع القرن التاسع عشر، قائلاً:
"قبل ثلاثين أو أربعين سنة كانت الكرك في أيدي عشيرة بدوية تدعى بني عمرو (العمرو)، اعتاد أفرادها على نصب خيامهم حول البلدة وإزعاج الأهالي بابتزازاتهم· وتحسن الإشارة إلى أنّ البدو بوجه عام حينما يكونون أسياد المزارعين، يتحول هؤلاء الآخرون إلى طبقة متسولين معدمين، وذلك بسبب الطلبات التي لا تنقطع· إن عم شيخ الكرك الحالي، الذي كان في الوقت ذاته زعيم البلدة، غضب على تصرفاتهم، فتوصل إلى تفاهم مع عرب الحويطات، وهاجم العمرو بالاشتراك مع هؤلاء العرب وهزمهم كلياً في اصطدامين· واضطر العمرو إلى اللجوء إلى البلقاء حيث تحالفوا مع عرب العدوان، ولكنهم طُردوا للمرة الثانية من هناك واضطروا للهرب نحو بيت المقدس· وعاشوا عدة سنوات بعد ذلك حياة يائسة وذلك لأنهم لم يكونوا أقوياء إلى حد يؤمّنون معه مراعي جيدة لمواشيهم، ومنذ ست سنوات تقريباً، قرروا العودة إلى الكرك، وبغض النظر عما يمكن أن يكون عليه مصيرهم· وفي طريقهم حول الطرف الجنوبي للبحر الميت فقدوا ثلثي مواشيهم بسبب هجمات أعدائهم التقليديين عرب الترابين· وحينما وصلوا أخيراً إلى ضواحي الكرك ألقوا بأنفسهم تحت رحمة شيخ القرية الحالي يوسف المجالي، الذي أعطاهم إذناً بالبقاء في منطقته على شرط أن يطيعوا أوامره· وقد تقلصوا الآن من ألف خيمة إلى مئتي خيمة تقريباً، ويمكن اعتبارهم حالياً الحرس الأمامي للشيخ الذي يستخدمهم ضد أعدائه الشخصيين ويحملهم على نصب خيامهم حيثما يرى مناسباً· وهكذا فإنّ أهالي الكرك أصبحوا مصدر فزع لجميع العرب المجاورين فهم الأسياد الحقيقيون على منطقة الكرك، ولهم نفوذ كبير على شؤون البلقاء"(30).
ومن شيوخ المجالي الذين نطقوا باسم عشائر الكرك في القرن الماضي ولعبوا دوراً في تاريخها السياسي، الشيخ عبد القادر المجالي الذي ألحق الهزيمة بابراهيم باشا في غور الكرك· وخلف عبد القادر بعد وفاته عام 1845 ابنه محمد زعيم الكرك دون منازع حتى عام 1885، وحارب مسيحيو الكرك تحت رايته العشائر البدوية المناوئة له· وخلف محمد المجالي سنة 5188 ابنه صالح ثم خليل· ويتردد ذكر الشيخ محمد المجالي في مراسلات كهنة البطريركية وفي الوثائق التي تمس تأسيس الإرسالية، فعلى البطريركية ومرسليها التعامل معه في غياب السُلطة للحكومية عن البلاد·
تاريخ الكرك المدني عبارة عن سلسلة من الغزوات بين العشائر، وانخرطت العشائر المسيحية في هذه الصراعات مما جعلها في حالة عدم استقرار شبه دائم· ولكن في الوقت عينه حفظت التحالفات العشائرية كيان الجماعة المسيحية القليلة العدد: "الكرك مأهولة بحوالي أربعمائة عائلة مسلمة وخمسين عائلة مسيحية· ولدى المسلمين حوالي ثمانمائة بندقية قديمة ذات زناد· ولدى المسيحيين حوالي مئتين وخمسين، ويتألف المسلمون من مستوطنين من انحاء سوريا الجنوبية، ولكن بصفة رئيسة من الجبال الواقعة حول الخليل ونابلس· والقسم الأكبر من المسيحيين هم من سلالة لاجئين من القدس وبيت لحم وبيت جالا(31)، وهم متحررون من جميع الضرائب الابتزازية ويتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون"(32)· ويشكّل المسيحيون عشر عشائر هي: الحدادين، العزيزات، الحجازين، العكشة، الكرادشة، الزريقات، المدانات، البقاعين، الهلسة والصناع، وتعود هذه العشائر إلى أصول متباينة حسب الروايات العشائرية، فمثلاً الحدادين والعزيزات غساسنة، والعكشة والحجازين من الحجاز، والكرادشة من جبل الدروز، والزريقات والصناع من الشام···
وعلى الرغم من الحروب والغزوات، فقد تمتعت القبائل المسيحية بقسط من الأمن والاستقرار في وسط العشائر الإسلامية لعدة أسباب(33): فمنطقة الكرك بعيدة عن التأثير العثماني الذي غذّى التعصب تجاه الجماعات المسيحية، كما حفظت الحياة العشائرية المسيحيين من خلال عادتي البنعمة(34) والخاوة(35)، فاستقطبت منطقة الكرك العشائر المسيحية في المناطق المجاورة، واشتهر مسيحيو الكرك بالشجاعة والإقدام والمهارة في استخدام السلاح حسب وصف بيركهارت:
"إن مسيحيي الكرك مشهورون بشجاعتهم، وخاصة منذ المعركة التي وقعت مؤخراً بينهم وبين الرولة وهم من عرب ينتمون لعشيرة عنيزة حين قامت بتجريد مخيم المسيحيين، الذي كان على بعد حوالي ساعة من البلدة من جميع مواشيه· وعند أول إنذار بالخطر أعلنته النساء، قام في الحال سبعة وعشرون شاباً بمطاردة العدو الذي أدركوه على مسافة قصيرة وكانت لديهم الجرأة على مهاجمته، مع أن عدده يزيد على أربعماية رجل ممتطين إبلهم وكان كثيرون مسلحين بالبنادق، وبعد معركة استمرت ساعتين، استسلم عرب الرولة وكانت خسائرهم ثلاثة وأربعين قتيلاً وكثيراً من الجرحى وماية وعشرين بعيراً بالإضافة إلى كامل الغنيمة التي أخذوها معهم· أما المسيحيون فقد قُتلَ منهم أربعة فقط· ولبيان هذا النجاح الذي حققته هذه المغامرة البطولية، عليّ أن أذكر أن أهالي الكرك رماة بارعون، ولا يوجد بينهم غلام واحد لا يعرف كيف يستعمل البندقية حينما يكون في العاشرة من عمره"(36).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الكرك كرسي أسقفي قديم منذ العصر البيزنطي، وفي القرن التاسع عشر أقام أسقفها الفخري في القدس ومثله كاهن يوناني في الكرك، وساد الجهل المطبق واللامبالاة الدينية بين مسيحيي الجنوب، فكتب بيركهارت:
"أساليب الحياة المنزلية التي يتبعها مسيحيو الكرك هي نفس الأساليب المتبعة عند المسلمين، كما وإن قوانينهم هي نفسها باستثناء ما يتعلق منها بالزواج··· أما بالنسبة لواجباتهم الدينية فإنهم يقومون بها بما يقل عن ذاك الذي يقوم به المسيحيون الشرقيون الآخرون في سوريا· وقليلون منهم يترددون على الكنيسة، ويتذرعون في ذلك بأنهم لا يفقهون أية كلمة من مراسيم الصلاة باللغة اليونانية· كما وأنهم لا يراعون الصيام، وهذا أمر طبيعي لأنهم سيضطرون لأن يعيشوا كلياً على الخبز وحده، اذا امتنعوا تماماً عن اكل الطعام المستخرج من الحيوان· ومع أنهم مرتبطون بالمسلمين ارتباطاً وثيقاً بسبب المصالح والعادات المشتركة إلى حد يعتبرون معه عشيرة واحدة، إلا أن هناك حسداً بين أتباع الدينين يزيده ميل الشيخ إلى المسيحيين ولأن المسلمين يرون هؤلاء الأخيرين يحققون ازدهاراً اقتصادياً، وقد عمدوا إلى طريقة غريبة تسعد أولادهم وتوفقهم في الحياة وذلك بأن أخذ كثيرون منهم يعمدون أولادهم الذكور في كنيسة الخضر ويتخذون عرّابين (آباء في العماد) مسيحيين لأبنائهم· وليس هناك شيخ او قاض متعصب ليمنع هذا الإجراء· والكاهن الأرثوذكسي الذي يُدفَعُ له أجر وافر للتعميد، يحاول أن يوفق بين وخزات ضميره خوفاً من أن يموت الطفل الذي يُعمّد على الدين المسيحي وبين أن لا يعطي الطفل معمودية كاملة، ولكنه يغطس يديه ورجليه فقط في الماء، بينما يتلقى الطفل المسيحي تغطيساً كلياً· وهذه الحيلة الدينية تسكن جميع وخزات ضميره بالنسبة لشرعية العمل· ومع ذلك فإن الكهنة يتجرأون على القول إن هؤلاء المسلمين المعمدين لم يعرف عنهم ابداً انهم ماتوا قبل سن الشيخوخة"(37).
1 - اتصال مسيحيي الكرك بالأب موريتان :
عاش مسيحيو الكرك بعيدين عن تعقيدات الوضع الديني في فلسطين بأماكنها المقدسة وبطريركياتها ورهبانها· وقادت الظروف هؤلاء المسيحيين المنسيين في البادية إلى البطريركية اللاتينية، التي وُجدت لأمثالهم وليس لتكون طرفاً في صراعات الأماكن المقدسة والمواقع المسيحية التقليدية في فلسطين· وتمّ الاتصال بالبطريركية عن طريق إرساليتي بيت جالا والسلط· فقد عمل بعض الكركيين بالتجارة مع الخليل والقدس عن طريق جنوبي البحر الميت، واتصلوا بالأب موريتان ببيت جالا وقد أعجبوا بإنجازات البطريركية في فلسطين، ويذكرهم موريتان بقوله: "تعرفت على بعض المسيحيين من الكرك منذ زمن بعيد، فقد أتوا إلى بيت جالا عندما كنت خوري الرعية هناك اثناء بناء المعهد الإكليريكي والكنيسة· وسألوا أن تُرسِل البطريركية كاهناً لهم، وأوصوني بأن أفاتح البطريرك بذلك"(38)· فشخصية فاليركا الفذّة جعلت محمد المجالي ينشد صداقته أيضاً: "وحمل الكركيون معهم رسالة من المجالي زعيم المسلمين في الكرك، يناشد البطريرك فيها تلبية طلب المسيحيين وإرسال كاهن لهم"(39)· وقد تمت هذه المراسلات عام 1856، وخشي البطريرك فاليركا آنذاك من تلبية طلبهم لقلة عدد المرسلين وبُعد الكرك عن القدس·
وفي عام 1870 حلّت مجاعة في جنوبي الأردن فهاجر نحو 1500 - 2000 شخص من الجنوب إلى ا??بلقاء هرباً من المجاعة· ويذكر موريتان قصة سليمان الهلسه الذي وافته المنية في الفحيص وقد هاجر من الجنوب، ودُعيَ موريتان إلى جانبه في ساعة نزاعه ومنحه الأسرار المقدسة وأقام الصلاة على جثمانه بعد وفاته(40).
2 - عشيرة العزيزات :
تركت اتصالات المرسلين بعشائر الجنوب انطباعاً حسناً، ومهدت السبيل لفتح الإرسالية اللاتينية في الكرك: "لقد مهدت محبة الأب موريتان وتفانيه السبل وعرّفت مسيحيي الكرك بالكاهن الكاثوليكي· أما تأسيس الإرسالية فإنجاز خليفته في السلط الأب چاتي مُرسَل الأردن مدة خمس عشرة سنة· فبعد تأسيس الفحيص ورميمين الحّ عليه الكركيون أن يبعث لهم مُرسَلاً لاتينياً"(41)· والسبب المباشر لذلك يذكره يوسف العزيزات: "رغب العزيزات أن يكون لهم كاهن من عشيرتهم فذهب بضعة رجال منهم إلى بطريرك الروم وطلبوا منه أن يرسم صالح الصوالحه كاهناً لهم· وكان في دير الروم آنذاك الأرشمندريت افراميوس وهو من الهلسه، قال هذا للبطريرك أن لا داعي لرسامة خوري آخر للكرك، إنّ خوري الهلسه يكفي· قال رجال العزيزات: إننا لا نصلي وراء خوري من عشيرة الهلسه، إننا نريد كاهناً من عشيرتنا· ولما لم يلبّ البطريرك طلبهم بعد محاولات كثيرة، ذهبوا إلى بطريرك اللاتين منصور براكّو وهو ثاني بطريرك لاتيني وُجِدَ في القدس وطلبوا أن يرسل كاهناً معهم، فأرسل الكاهن اسكندر بعد أن تعهدوا بألا ينكثوا الوعد ويرجعوا أرثوذكساً"(42)· وقيل أن عشيرة العزيزات قدمت صالح الصوالحة لرسامته كاهناً في البطريركية الأرثوذكسية، ولما ماطلت البطريركية في رسامته عدة أشهر اقتحم رجال العزيزات البطريركية واستردوا شيخهم صالح وتوجهوا لمقابلة البطريرك براكّو· وفي الواقع ان البطريرك لم يرسل معهم الأب اسكندر، بل وعدهم خيراً وحملهم كتاباً إلى الأب چاتي في السلط يطلب منه أن يقوم بجولة استطلاعية تمت في تشرين الأول 1875· وفي 2 تشرين الثاني وصل وفد من العزيزات إلى السلط وطلب مجدداً من الأب چاتي مرافقتهم إلى القدس لمقابلة البطريرك فاعتذر، وأرسل معهم أحد الكهنة من مساعديه ومعه تقرير عن جولته في الكرك، ويوصي بوفد العزيزات خيراً ويشجّع البطريرك على فتح إرسالية الكرك، وبعد أيام عاد وفد الكركيين من القدس· ولمس الأب چاتي أن البطريرك أحسن استقبال الوفد وعمل بكتاب التوصية الذي أرسله معهم، فحمل إليه الوفد خبر تعيينه في الكرك وحضر معهم خوري السلط الجديد الأب اسكندر مكانيو (43))· (Alexandro Macagno) صُعِقَ الأب چاتي لسماعه خبر تعيينه في الكرك، فليس بوسعه التخلي عن رعيته وهي تمرّ بظروف صعبة· فكتب إلى البطريرك في 5/11/5187 يقترح عليه تعديل التعيينات الجديدة، فوافقه البطريرك الرأي وأبقاه في السلط، وعيّن مكانيو في الكرك على أن يرافق الأب چاتي زميله الجديد إلى أن يستقر في رعيته·
3 - چاتي ومكانيو في الكرك :
غادر چاتي ومكانيو السلط بعد عيد الميلاد عام 1875، وكتب مكانيو الذي عُرِفَ طوال ثلاثين عاماً في الكرك >بأبونا اسكندر< تقريره الأول للبطريرك في 18/1/1876 حول استقبالهما في الكرك: "وما أن وصلنا، حتى نشب قتال بين اللاتين والروم وتطايرت الحجارة وأشهرت السيوف والخناجر وتشابكت الأيدي· وقد جُرِحَ أحد رجالنا في ظهره وخشي الروم الثأر، فأخذوا من أهل الجريح >العطوة< وانتهى القتال"(44)· وسبب الشجار تحدي العزيزات لبقية العشائر بدعوة خوري اللاتين إلى الكرك· تمّت عدة لقاءات بين المرسلين ومحمد المجالي لضمان سلامة مرسل البطريركية وحماية الإرسالية الجديدة· ولدى عودة الأب چاتي إلى السلط في 20/1/1876 حمّله الأب اسكندر كتاباً إلى البطريركية يطلب منه أن يبعث له بمساعد، إذ إن الرعية الجديدة موزعة بين المدينة والبادية، فأرسل إليه البطريرك الأب باولو باندولي (Paolo Bandoli)، الذي عُرِف بالكرك >بأبونا بولس<·
ويصف أبونا بولس رعيته الجديدة: "في 23 آذار 1876 وصلت الكرك وحللت بين العرب الرُحّل، وفي 25 منه فتحت مدرستي التي تضم خمسة عشر ولداً وتسع بنات ومجمل عدد اللاتين 150 نفساً· ولا أجد من بينهم من يفرّح قلبي ويعرف كيف تُرسم إشارة الصليب ولكنهم جميعاً يتشوقون إلى المعرفة وتعلم الصلوات· وضربت خيمتي على سفح جبل شيحان، وتحيط بي ألفا خيمة"(45)· فقد أقام الأب اسكندر في الكرك، والأب بولس في البادية على سفوح جبل شيحان المطل على وادي الموجب، حيث ضربت العشائر المسيحية مضاربها هناك· وتصل أخبار الإرسالية الجديدة إلى البطريرك في القدس، "فينسرّ وأي سرور إذا بلّغوه أنّ أبناء البادية يرفعون كل مساء أصواتهم بصلاة المسيحي الصالح، ويتلون المسبحة الوردية تحت الخيام المضروبة بتلك الحقول، على حين أن المرسل يطوف من خيمة إلى خيمة ومن جماعة إلى أخرى ليحثهم على الصلاة ويسعر نار عبادتهم"(46)·
أما مسكن الكاهن في الكرك فلم يكن أفضل من خيام البادية :
"فالكاهن الذي ذهب أولاً كان في بادية الأمر ساكناً بدار حقيرة سيئة البناء حيطانها من الأحجار والوحل وسقفها من الخشب الغليظة والقصب المتخلل فيما بينه التراب· وأخبرنا المرسل نفسه، قال: لا يقيك سقفها من الأمطار في أثناء الشتاء، وبها من الجرذان ما يفهمك أن هذه الحيوانات وجدت من خلال ذلك القصب والتراب أهنىء مسكن وأوسع مربع· أما الجرذان فتجلب الأفاعي القائمة هنا مقام السنانير· وترى العقارب ترتع في الوسط وتتماشى على هونها وكثيراً ما وجدت هذه الأصحاب تدب على سريري· وأما جميع أثاث داري فمنحصر في صندوقين وسرير لا تعلوه أبداً الشراشف··· وإنما كنيستي عبارة عن مذبح صغير متنقل ينصب تارة هنا وطوراً هناك حسب اقتضاء المقام وتقلب الظروف··· وجميع اهالي الكرك من مسلمين ونصارى يبلغ عددهم إلى سبعة آلاف نسمة"(47).
4 - مشاكل راعويــة :
مما لا شك فيه أن تكوين العقليات الجديدة وتنمية روح الديانة الصادقة من أصعب الأمور على مرسلي البطريركية· وللوصول إلى نتيجة مرضية يقتضي الأمر سنوات وربما أجيالاً· وبرزت الصعوبات في وجه الأب اسكندر، فالنظرة النفعية مهيمنة على العقلية الشعبية: "ينظر مسيحيو الكرك إلى البطريركية الأرثوذكسية واللاتينية ككنزين لا يفنيان! وقلة منهم ينجذبون إلى الديانة حباً للّه، وجُلّ همهم الحصول على المساعدات والحماية من البطريركيتين"(48)· فطلبت بعض العشائر الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية بشرط أن تفتح البطريركية لكل عشيرة مدرسة خاصة، ويُعين أحد أبناء العشيرة معلماً للمدرسة وتُمْنَح مساعدات مادية من البطريركية، وجاء جواب البطريرك للأب مكانيو حازماً قاطعاً: "بشأن العائلات التي تبغي الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية، اقبلها، ولكن دون شروط، فالكنيسة الكاثوليكية ترحب بالجميع وهي التي تملي شروطها وتفرض عقائدها ونظامها· والقاعدة في إرسالياتنا أن البطريرك هو من يقرر ويعين معلمي المدارس ولا يتلقى تعليماته من الشعب· وتقول إن بعض رعيتك سوف تعود إلى الأرثوذكسية، فليكن ذلك··· وإذا دعت الضرورة انفض غبار اقدامك وعد إلى القدس! وأخيراً قل للأب بولس أن يحذر طمع هؤلاء الناس مسيحيين ومسلمين! ليُحْسِنْ استقبالهم وضيافتهم ويخاطبهم بمعسول الكلام وليقدم لهم القهوة حسب العادات الشرقية ولكن لا يعطيهم مالاً"(49).·
أما العشائر الأرثوذكسية والأمينة للبطريركية الرومية فقد قاومت الأب اسكندر، وتزعم المقاومة خليل الصناع ومن بعده ابنه جريس، وقد أعاق خليل الصناع بناء الكنيسة والدير لعدة سنوات(50).
وقد مرّ التنسيق بين المجالي والبطريركية في ظروف صعبة عسيرة في البداية، فقد جاء في إحدى رسائل البطريرك براكّو إلى خوري الكرك مكانيو ما يلي: "عليك أن تُذكّر محمد المجالي أنه هو قد التمس منا فتح إرسالية الكرك، ولم تكن نيتنا فتحها فعليك أن تظهر له بأن وجودنا في الكرك كرم ولطف منا وفيه مصلحته لا مصلحتنا···"(51).·
وهكذا أمضى الأبوان اسكندر وبولس وقتاً مريراً في الكرك بسبب المضايقات وكثرة الغزوات والمناوشات العشائرية، وحلّ الجفاف في شتاء عام 1877 مخلفاً مجاعة وعوزاً شديدين· أما في أواخر عام 1879 فقد حلّت مصيبة بالإرسالية الناشئة كان لها أثر بارز في نشوء مدينة وإرسالية جديدة هي مادبا·
5 - أحداث عام 1879 وهجرة العزيزات إلى مادبا:
دوّن عدة مؤرخين أحداث عام 1879 المؤلمة، ولعل أفضلهم يوسف العزيزات الذي اطّلع على كتابات مدبييل وجوسان ودقّق روايته بذكريات المسنين من العزيزات: "في 6 تشرين الثاني 1879 بينما كانت بعض نساء العزيزات يردن بئر ماء قرب الكرك، خطف المدعو محمود من الصرايرة نجمة ابنة سالم الطوال الذي قُتِلَ في حادثة غزو الطفيلة، وهي زوجة جريس ابن يوسف الطوال وهرب بها"(52)· أما رد العزيزات فكان عنيفاً، ووقف المجالي حلفاؤهم في صفهم: "وفي اليوم التالي راجت بعض الأنباء تقول إن الرجل والمرأة في قرية تبعد ساعتين عن الكرك إلا أنّ أهل القرية أبوا أن يسلّموا المجرمين· فامتطى الخيالة من المجالي خيولهم وذهبوا إلى القرية مهددين بقتل أهلها إن لم يسلّموا المرأة، فسار المجالي والعزيزات إلى كثربّة وبيّن المجالي عزمهم الأكيد على تدمير القرية وذبح أهلها إن لم تُسلّم المرأة··· فخضع شيوخ القرية للأمر، إلا أن المرأة لم تُسلّم لأخيها لئلا يحكم بها سيفه، بل سُلِّمت إلى محمد المجالي"(53).
أما نجمة الطوال فقد سار بها الأب بولس إلى القدس ثم الى نابلس· وعرض الصرايرة الصلح على ابراهيم الطوال أخيها بوساطة المجالي الذي رفض عرضهم السخي، وأجاب: >لا أريد ذهباً بل دماً<(54)· وتبع ابراهيم اخته الى فلسطين وعمل بستانياً لدى احدى العائلات ليخفي غرضه وشخصيته، "وقيل إنه ذهب إلى نابلس وقتلها وقيل غير ذلك"(55)· وأدّت هذه الأحداث إلى جلاء العزيزات إلى مادبا، "ولما لم تنته المفاوضات إلى شيء، طلب العزيزات من الصرايرة الجلاء، كما هي العادة إذ يقال - إن لم تجل ِعني أجلُ عنك - فرفضوا، عندئذ قرروا الرحيل عن الكرك لاتخاذ الاجراءات الضرورية لتبييض عرضهم"(56)· ويصوّر الأب مكانيو في مراسلاته تطور القضية بخلاف ذلك: "غدا مسيحيو الكرك في خطر وأصبحوا معرضين لمجزرة عامة، فإن المعادين للمجالي اخذوا يزدادون، حتى أن محمد المجالي والمسيحيين أمسوا يخشون على أنفسهم"(57)· وحسب هذه المراسلات فقد جلى الصرايرة إلى الحسا وتبعهم العزيزات والمجالي وذبحوا حلالهم (مواشيهم) وأحرقوا متاعهم وقتلوا بعضاً منهم· وكان البطريرك يتابع تطور القضية، فاهتم بالبحث عن مكان آمن ينقل إليه هؤلاء المسيحيين، وقد كتب إلى خوري الكرك في هذا الصدد: "سوف نسعى عند حاكم نابلس لننال منه أرضاً في البلقاء، حيث يستطيع أن يسكن أبناء رعيتنا، بما أنهم لا يستطيعون البقاء في دياركم"(58)· تحمس العزيزات وسائر المسيحيين لفكرة الهجرة، وذهب الخوري بولس مع بعض شيوخ العزيزات إلى السلط وبحث عن أماكن غير مأهولة لرعيته· وفي أواسط كانون الثاني 1880 وضّح الأب اسكندر حالة المسيحيين من حيث فكرة الهجرة وكتب للبطريرك: "بعد حوادث تشرين الثاني كان جميع المسيحيين يريدون الرحيل، ولكن تلك كانت بادرة ما عتمت أن زالت· وبلغني الآن أنهم منقسمون وخصوصاً التجار، فإن التجارة تبغِض إليهم فكرة الرحيل لأنهم حققوا أرباحاً وافرة بعد أن باعوا بضاعتهم بأسعار باهظة· ولكن معظم العزيزات رغبوا في الرحيل، وبعضهم يلحّون ويودّون الذهاب حالاً إلى السلط حيث ينتظرهم الخوري بولس ليشاهدوا الأراضي التي سوف يسكنونها· أما سائر اللاتين من غير العزيزات فإني أظن من الصعب أن يتركوا قبائلهم ويخرجوا من الكرك"(59).
وفي البلقاء وقع اختيار الأب بولس وشيوخ العزيزات على خِرْبَة مادبا، وكانت آنذاك مهجورة وحجارة البناء متوفرة، وفي الموقع مغاور كثيرة تصلح للسكنى، والأرض الخصبة تمتد حولها· وفي شباط 1880ترك العزيزات منحدرات جبل شيحان وحلّوا في ذيبان وتوجهوا إلى مادبا لحرث الأراضي وزراعة الصيفي بينما بقيت مضاربهم في ذيبان· وحتى يضمن العزيزات مرورهم بسلام بمنطقة الموجب وقرى بني حميده نزلوا طنيباً(60) على الشيخ ابو ربيعه شيخ الحمايده، إلى أن استقروا في مادبا(61).
منحت السلطنة العثمانية أراضي مادبا للمهاجرين على أنها غير مستغلة· وفي صيف 1880 عاد كثير من المهاجرين إلى الكرك لحصاد أراضيهم إذ إنهم زرعوا في مادبا الصيفي فقط· ووصل الأب اسكندر من الكرك ومعه الكرادشة والمعايعة فأصبح عدد المهاجرين من الكرك نحو 800 شخص· ووزعت مغاور مادبا على العائلات القادمة، وخصصت المغارة الكبرى للعبادة وأقيمت فيها الكنيسة· وفي هذه الأثناء تابعت البطريركية موضوع هجرة العشائر إلى مادبا مع السلطات العثمانية، فكتب البطريرك إلى والي الشام مدحت باشا يستحثه على منح أراضي مادبا للمهاجرين الكركيين· وفي 29 آذار أصدرت ولاية الشام تعليماتها لمتصرف نابلس وفي النص تلميح إلى هجرة العزيزات إلى لواء السلط، ودُبرت نهائياً قضية مادبا على المستوى الإداري· وفي 28 تموز وقّع مدحت باشا الأمر وبعث به إلى متصرف نابلس، وفي 24 آب إلى مجلس السلط الاداري، "أما في حزيران 1881 فقد حان الحصاد فلم يبق أحد في ذيبان، إذ نزلت جميع العشائر من عزيزات وكرادشة ومعايعة نهائياً في مادبا فقُسِمَت هذه الأراضي المجاورة على العشائر"(62).
أضرّت هجرة العزيزات إلى مادبا بالمجالي حلفائهم إذ فقدوا خير محاربيهم، وحاول محمد المجالي الحيلولة دون تدفق المهاجرين إلى مادبا وعودة من نزح منهم ولكن بلا نتيجة: "إن الهجرة مضرة لنا، قال الشيخ محمد، إذْ نفقد خير محاربينا وتضعف قوانا وتخلف لنا الأعداء فعلينا منعهم، ورافقه بعض خيّالته وجاء الشيخ صالح (الصوالحة) وحاول إقناعه بالكلام المعسول: سنعلن السلام الدائم في ربوعنا ونطرد الصرايرة أعداءكم ونعاملكم باحترام· لم يصدق صالح هذه الوعود وهو الرجل الصادق الذكي، وأجابه ببساطة بلهجته البدوية: لا نريد أن نسكن بينكم ونشرب ماءكم··· وعاد المـجالي خائبين"(63)· وهكذا حلّ الكركيون في مادبا، وعمّروا مدينة جديدة كانت خِرْبَةً قبل مجيئهم، وانتقل الأب اسكندر معهم ليرعى شؤونهم الروحية· وتحققت هذه الامور بشجاعة الرواد الأوائل من العزيزات وهم: "صالح بن خليل الصوالحة وكان هو شيخهم، ومرار وخلف العلمات وسلمان بن عيسى الصوالحة ومسعد بن يوسف الطوال· بعد موت صالح صارت الشيخة ليعقوب الشويحات الذي كان ذا شخصية قوية وهيبة ووقار· كان جسوراً في الكلام لا يهاب أحداً، وكان لذلك محترماً ومهاباً ومحبوباً من الجميع، وفي جميع الأوساط الحكومية والقبلية وكان يقال: مادبا يعقوب، ويعقوب مادبا"(64).
6 - إرسالية الكرك بعد هجرة العزيزات :
وفي عام 1883 عاد الأب اسكندر إلى الكرك، بعد أن مكث ثلاث سنوات في مادبا، ويذكر في تقرير له رفعه إلى البطريرك في 6 ايار 1883، أنّ عدد اللاتين في الكرك144 نفساً، وهناك غيرهم في والبادية· لم ينحصر عمل الأب اسكندر في الكرك بل انطلق إلى العشائر التي تسكن الكرك والبادية كالعكشة والحجازين· فبعد هجرة العزيزات الى مادبا صار بوسع الكاهن التوجه إلى العشائر الأخرى، إذ إن العزيزات عدّوا الكاهن لهم وحسب، ولم ينظروا بارتياح الى دخول عشائر غيرهم في الكثلكة· وقد تعرض الأب اسكندر لكثير من المضايقات من المصادر نفسها التي ذُكرت آنفاً، مما جعل العمل الرسولي في تراجع شبه مستمر· وحاول الأب اسكندر الحفاظ على القلة الباقية من رعيته قدر المستطاع·
وفي عام 1888 أصيب الأب اسكندر بالروماتيزم فنصحه البطريرك بالسفر إلى مادبا لبضعة أسابيع للاستجمام، وامتدّت إقامته في مادبا ست سنوات، وعاد إلى الكرك بعد أن وطّد الأتراك حكمهم· ولدى عودته إلى الكرك في 8 آذار 1894، عيّن البطريرك بيافي آنذاك الأب بطرس فران المقدسي مساعداً له، ثم الأب انطون عبد ربه البيتجالي، وكان الأخير اليد اليمنى للأب اسكندر الذي تقدم به العـمـر· الأمـر الذي قضـى بسفر الأب عبد ربه إلى نابلس، ومن ثم الى دمشق لمقابلة الإمبراطور فلهلم الثاني الذي مرّ بدمشق عام 1898، ليتوسط له في الحصول على الفرمان العثماني لإتمام العمل في الدير والكنيسة الذي بدأ عام 1897، بإشراف مهندس البطريركية وأمين سرها الأب چوليمو باربيرس (Guglemo Barberis)·
حصل الأب انطون على إذن رسمي عام 1898 بإقامة الصلاة والاعتراف بالطائفة اللاتينية في الكرك· واستُعمل جزء من بيت الكاهن كنيسةً حتى عام 1927، ووسّعت عام 1937· أما مدرسة الاولاد فقد حصل الأب انطون على إذن رسمي بفتحها عام 1900 ومدرسة للبنات عام 1902· وازدهرت مدرسة البنات بالتحاق راهبات الوردية بالإرسالية عام 1904· وعمل الأب مكانيو على استقرار عشيرتي العكشة والحجازين في خربة السماكية، فحصل الأب عبد ربه على خربة السماكية من المجالي، ووزع عام 1900 أراضي الخربة على أفراد العشيرتين اللتين استقرتا نهائياً في الخربة عام 1909· وافتُتِحَت إرسالية في بلدة أدر عام 1928· ففي ربع قرن حقق مرسلو البطريركية الأوائل وجود الكنيسة الكاثوليكية في جنوبي الأردن· وفي عام 1902 نُقِلَ الأب انطون إلى السلط، وتوفي الأب اسكندر في 15/12/1905 وله من العمر آنذاك أربعة وستون عاماً ودفن في حرم دير الكرك·
د - إرسالية مادبـــا :
في حزيران 1881 استقرّ المهاجرون الكركيون في مادبا، وسكنوا مغاورها ونصبوا خيامهم بين أطلالها الأثرية· وقُسّمَت البلدة بين عشائر مادبا، فالعزيزات جنوبي وشرقي قلعة مادبا الأثرية، والكرادشة في الجنوب الغربي، والصُنّاع والمعايعة في الشمال، أما وسط البلدة فقد خُصّص لبناء الدير على تلة صغيرة تقع عليها قلعة مادبا القديمة· وبرزت مشاكل عديدة في المجتمع الجديد سببها العصبية القبلية بين عشائر مادبا نفسها وبين العشائر المجاورة، الذين عدّوا منطقة مادبا ضمن نفوذهم، ورأوا في الروّاد الجدد غزاة ومنافسين على مناطق الرعي، ولذا دعت الضرورة لاستعمال السلاح في كثير من الأحيان، "عند سكنى مادبا كان العزيزات يعدون اثنين وستين رجلاً من حاملي السلاح والكرادشة أربعين والمعايعة خمسة واربعين"(65)· فالروايات الشعبية الشفوية التي يرويها أهل مادبا ومذكرات المرسلين ومراسلاتهم لا تعطي انطباعاً بأيام سلام ووئام في مادبا· فقد عُرفت بعض السنوات بأسماء خاصة، كغزو بين أهل مادبا والعشائر المجاورة، أو صلح عشائري، أو تدخل عسكري تركي لفض خلاف مستحكم أو فرض ضريبة، فتسمى سنة 1886 >سنة السرحاني< وسنة 1890 بسنة>ذبحة الأزيدي< وسنة 1892 >بسنة المخيطي<(66).
تمّ استملاك الأراضي المحيطة بمادبا تدريجاً بمعونة البطريركية، وهذه الأراضي التي تحيط بخربة مادبا من جميع الجهات هي: المغر والحنو وجلول والتيم، "حصل المرسلون على الأراضي التي حول مادبا واستملكوها قبل أن تمنحها السلطات العثمانية لهم وقد أجّرها المرسلون لرعاياهم مقابل الحصول على خُمْس الغلة"(67)· ثم تخلى خوري الرعية عن مشاركة الأهلين بغلات أراضيهم ووُزِعت على العائلات كمُلك خاص·
تُعد سنة 1893 وما بعدها فترة رخاء واستقرار نسبي في المنطقة، إذ جعل الأتراك من مادبا مديرية، "وفي تلك السنة جعل الأتراك مديرية باسم مديرية ناحية الثمد، وعيّن السيد محمد افندي حكيم من اللاذقية مديراً لها، وألحق بني حميدة والسلايطة والكعابنة بها··· وكان الأمن مستتباً في مادبا فلا تعديات ولا غزوات ولا قطع طرق· فانتعشت البلاد وزادت المواشي، حتى أن العزيزات صار عندهم 16 ألف رأس غنم والكرادشة 8 آلاف والمعايعة 4 آلاف· وصاروا يذهبون في مواشيهم طلباً للماء والكلأ مسافة سبع أو ثمان ساعات في أراضي بني صخر وبني حميده من غير أن يعترض لهم أحد"(68).
أما كهنة البطريركية الذين خدموا مادبا في تلك الحقبة فهم :
1 - الأب بولس باندولي (1881 - 1885):
كانت باكورة حياته الرسولية في السلط، ثم عُيّن مساعداً للأب اسكندر مكانيو في الكرك ورحل مع العزيزات إلى مادبا· وقد بذل الأب بولس جهداً في التوفيق بين العشائر وتوزيع الأراضي· وتطبّع بأطباع البدو وعاداتهم وحلّ مشاكل مؤمنيه على طريقتهم وعقليتهم· ويروي عنه الأب برنردينو ميرلو هذه الحادثة(69): بينما كان في السلط لبعض المهام، حضر إلى المغارة التي يسكنها الشيخ سطام الفايز وأخذ يهدده ويتوعده! ولما لم يجد الأب بولس ثار غضبه وحطّم نرجيلة الخوري وقطع أنبوبها قائلا:ً "هكذا سأفعل بك إن لم تخرج من مادبا يا أبونا بولس"، فحمل بعضهم الخبر إليه في السلط، فأمدّه القائمقام بحوالي مئة جندي وساروا معه إلى مادبا· وأثناء المسيرة اتصل الخوري بالعشائر المعادية لسطام الفايز وحشد رجالها معه فبلغ عدد خيالته نحو ثلاثمائة رجل، ووصل خربة أم العمد وعشيرة الفايز على غير أهبة للقتال، فهرب الشيخ سطام إلى البادية واستولى المهاجمون على ما استطاعوا حمله من الغنائم ولم يقتلوا أحداً· ونَصَحَ احد شيوخ العشائر سطام بأن الغنائم لن تُعاد إلاّ بعد تقديم الاعتذار للخوري، فأهداه سطام مُهراً ونعامتين· خشي البطريرك من مغبة طباع كاهنه البدوية وميوله القتالية، فنقله عام 1885 من مادبا على الرغم من احتجاج اللاتين وتأسف الروم وعربان البادية·
2 - الأب حنا سرينا (1885 - 1886):
الأب حنا سرينا ناصري الأصل، خدم رعية مادبا تسعة أشهر نُقِلَ بعدها إلى رعية أخرى·
3 - الأب زفيرين بيفير (Zephyrin Biever) - أبونا داود (1886 - 1891):
شخصيته قوية، قاد رعية مادبا بحكمة وتعقل، وعمل مع الأب رتسبون قبل انضمامه إلى الإكليروس البطريركي عام 1886، وأبونا داود من لكسمبورج مواليد عام 1849· فتح مستوصفاً في مادبا وعمّر ديراً صغيراً عام 7881 مكوناً من طابقين وست غرف، مما شجّع أهل مادبا على تشييد البيوت وترك المغاور التي سكنوها في بداية الهجرة·
4 - الأب يوسف منفريدي 1904 - 1891: ( Manfredi
"الأب يوسف منفريدي من مواليد البيمونت عام 1863، وهو خوري مادبا الرابع بعد كهنة الرعية الثلاثة الأوائل: البدوي الأب بولس، والضعيف الأب حنا سرينا والرجل القوي الأب بيفير، جاء مادبا مرسل عظيم هو الأب منفريدي رجل كامل الصفات كانت مادبا بحاجة إليه، فهو رجل الله، ذكي وشجاع، حذر ومثقف وعالم آثار، فتابع مشروع الأب بيفير العمراني وبنى كنيسة وجاء براهبات الوردية للعمل في الإرسالية"(70).
وفَضْلُ الأب منفريدي على مادبا لا يُنْكر، ذلك لأنه كشف للعالم عن كنوزها الفسيفسائية القديمة: "مع أن الأثريين لم يدرسوا قط المدينة القديمة درساً منظماً، فقد أنعم الله على مادبا الجديدة برجل حفظ مجد الماضي من خراب كلي، وحال دون أن يذهب فريسة لمطامع العمران الجديد، إنه أنعم عليها برجل كان في طليعة من كشفوا عن مراحل التاريخ المادبي"(71).
وفي عام 1894 فتح منفريدي كنيسة مؤقتة في البيت الذي بدأ عمارته الأب بيفير وأكمله هو عام 1893، بانتظار الفرمان لبناء كنيسة رسمية· ودخلت الراهبات الرعية عام 1896· وعيّنت البطريركية مساعداً له الأب لويس سالم (1867 - 1943) عام 1894، فتمكّن من السفر مرتين لإيطاليا لإلقاء المحاضرات حول تاريخ مادبا القديم، وجمع الحسنات لبناء الكنيسة التي حصل على فرمانها عام 1903 ودُشّنت عام 1913·
أما وفاة الأب منفريدي فكانت بداء التيفوس، ففي رسالة للبطريرك بتاريخ 23/11/1902 كتب الأب منفريدي: "اليوم الهواء الأصفر على الأبواب، فليتنازل الله وليلبي رغبتي بأن يرضى بتقدمة حياتي لخلاص شعبه من ضرباته· إني أتقبل الموت لخير مادبا، وفي الواقع بعد مرور سنة بعد ملازمته لفراش المصابين، توفي البطل المادبي ضحية الواجب في السابع من كانون الثاني 1904، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وهو في التاسعة والثلاثين من العمر"(72)· ودفن الأب منفريدي في الكنيسة التي باشر ببنائها، "في ظلمة هذا القبر وسكونه ما زلنا نرى أجمل اختصار لتاريخ مادبا منذ أيام مؤاب البعيدة حتى فجر القرن العشرين"(73).
هـ - إرساليات شمال الأردن : الحصن وعنجرة وعجلون :
يذكر الأب موريتان جولته في شمال الأردن واتصاله بالمسيحيين عام 1871· وفي عام 1875 أبدى بعض مسيحيي الحصن نيتهم في الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية، وزارهم الأب چاتي عام 1876· لكن البطريرك منصور لم يتحمس كثيراً لقبولهم، فعدد المرسلين المحدود لا يسمح بالتوسع، ومن جهة أخرى كان على علم برغبة الكرسي الرسولي بأن يحتفظ المهتدون إلى الكثلكة بطقوسهم الشرقية، فوجههم إلى بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس يوسف، ولم يمتثل مسيحيو الحصن لنصيحته وألحّوا على أن تفتح البطريركية اللاتينية إرسالية في بلدهم(74)· وتمّ فتح الإرسالية عام 1885، ويذكر فللانيس اتصال أهل الحصن بالبطريركية بهذه العبارات:
"فالنصارى كانوا بأجمعهم تحت ولاية بطريرك الروم المُنشقين الأورشليمي وكان قد تقاذف إلى كثير من هؤلاء المسيحيين الخير الجزيل الذي اصطنعه البطريرك اللاتيني في بلاد عبر الاردن، فِفي السلط والفحيص ومادبا والكرك حيث الرسالة أضحت جمّة المنافع كثيرة المصالح، والناس تحت ظلها متكئون على أحسن أريكة من المسرة والانبساط· فتبعاً لهذه الأخبار، حَسَرَ أحد مشايخ الحصن عن ساق الاجتهاد في قصد البطريرك اللاتيني لالتماس كاهن يرشدهم إلى الصراط المستقيم· وكان هذا الشيخ العاقل قد جمع بين عشائر أُخَر له عليهن الشوكة والنفوذ، وصرّح بأنه مزمع على اعتناق الكثلكة مع جميع ذويه وأصدقائه· ولما كَثُرَ منهم الإلحاح وتوالت المعاريض والرسلاء إلى زمان طويل، بل بفروغ صبر وجلد عجيب كادت غيرة السيد منصور لا تتماسك عن تلبية طلبهم بالإجابة، فعرض عليهم أولاً ثم ثانياً الانضمام إلى الروم الكاثوليك، فأبوا أن يسمعوا ولم يزالوا يجيبونه قائلين: "الاستمرار على الضلال ولا الانتظام في سلك هذا المذهب فنكون إمّا لاتينيين واما مشاقين (منشقين)"(75).
عيّن البطريرك الأب نافوني في الحصن، ويذكر البطريرك في تقاريره أنّ عدد اللاتين كان آنذاك 300 نسمة موزعين على 58 عائلة، وتقام الصلاة في بيت الكاهن لعدم وجود كنيسة، والبيت عينه أيام الاسبوع يُستعمل مدرسة، عدد طلابها 60 من الذكور ومثلهم من الإناث·
ومّرت إرسالية الحصن بالمراحل عينها تقريباً التي مرت بها رعية الكرك فأغْلِقَت مدرستها ثلاث مرات: "وأما الهموم التي أنزلتها رسالة الحصن بقلب السيد منصور فإنما الله عَرَفَ دفينها· وأما المطالع الفقيه فحسبه أن يعرف أن تلك الرسالة أصبحت من جملة الرسالات اللواتي وردن مورد الشدائد وعبثت بهن يد البلاء منذ بدء افتتاحهن، فكأنما قطع الشيطان سلاسله وخرج عليها بكل النوائب، فكنت ترى الرسائل البرقية تتوارد على السيد منصور وتورثه من الألم ما يمزق فؤاده"(76).
وفي 7/12/1893 توفي الأب نـافوني، وخلفـه الأب أدريانو سميتسAdriano Smets) 1940- 1867) الهولندي الجنسية· وكان الأب نافوني قبيل وفاته قد استملك قطعة أرض، بنى عليها خليفته كنيسة عام 1902، ووضع مخططها الأب المهندس باربيرس·
عام 1885 توطدت صلات مسيحيي جبل عجلون بمرسلي البطريركية بفتح رعية الحصن، إذ إن الطريق بين السلط والحصن تمرّ من جبل عجلون· وفي العام المذكور بعث الأب مشيل كرم بانطباعاته الأولى إلى البطريرك: "منذ ثلاثة أيام أرسلني الأب نافوني لزيارة القرى التي طلب مسيحيوها الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية بإلحاح، فزرت قرية عنجرة فوجدت فيها 250 نفساً وربما 300 نفس، وبقرب عنجرة هناك عجلون وكفرنجة، وفي كل منهما نحو مئة شخص أبدوا رغبتهم في الانضمام إلينا· هؤلاء المسيحيون يستحقون رعاية سيادتكم ويطالبون بمدرسة ومرسل· ليدرس سيادتكم الموضوع بتروٍ وليعطِ جواباً للأب نافوني"(77)، ويبدو أن مسيحيي عنجرة قد اتصلوا بمـجمع نــشر الإيمـان فـي سـبيل فـتح إرســالية فـي قريتهم(78)· واستقر كهنة البطريركية نهائياً في عنجرة عام 1897 وأولهم الأب حنا سرينا، ثم الأب جوزبّه كارللو (Giuseppe Garello) عام 1898، وعُهِدَ إليه برعاية إرساليتي عجلون وعنجرة· وفي 9شباط 1902 قُتل كارللو غدراً بالرصاص في ظهره· وتبين فيما بعد أن القاتل قد طلب يد فتاة للزواج فرفضته، ولم يرضَ الكاهن عن ارغامها، فانتقم منه الشاب بقتله· ودُفِنَ الأب جوزبّه في الحصن، ويرقد بجانبه في أقبية كنيسة الحصن الأب انطون عبد ربه، الذي أتى الحصن عام 1916 قادماً من السلط ليسعف المحتضرين بمرض التيفوس فقضى نحبه بين أبناء الرعية، وهكذا ارتبط مصير الكهنة الأوائل برعاياهم الأردنية ودفنوا في كنائسها!
و - إرسالية الرينــــه :
تابع المنسنيور براكّو رعاية الإرساليات العشر التي أسسها سلفه في فلسطين، فازدهرت في عهده، والتحقت راهبات الوردية في خدمة معظمها، أما المنسنيور براكّو فأسّس في فلسطين أربع إرساليات أولها إرسالية الرينه·
تقع الرينه قرب الناصرة على الطريق المؤدي لطبريا· وخدم الرينه عام 1877 كاهن مقيم في الناصرة، وفتح مدرسة مؤقته، وفي عام 1880 بُنيت الكنيسة والمدرسة· وخدم الرعية عام 1880 ولمدة أربعة عشر عاماً الأب لويس مونييه (Louis Monier)· ومن طرائف الأحداث في هذه الإرسالية أن البطريركية نقلت الأب لويس إلى شفا عمرو، وعينت خليفة له الأب يوسف اسطفان المقدسي، فلم يحسنوا استقباله وكانت النتيجة وخيمة: "أحب سكان الرينه الأب لويس الذي خدمهم أربعة عشر عاماً، فلم يحسنوا استقبال الأب يوسف اسطفان ، فرماه الأولاد بالحجارة، فثار غضبه وشكاهم للدرك الذي أودعهم السجن· فقاطع المؤمنون الكنيسة والمدرسة··· وكانت النتيجة مزعجة، إذ لاحظ المنسنيور بيافي في اذار 1898 بأن قسماً كبيراً من الرعية انشقّ عن الكنيسة، وفي الوقت عينه ثارت المشاكل والأحقاد القديمة وقد احتواها آنفاً الأب لويس بشخصيته القوية وتعمقت الخلافات العائلية والعشائرية بين أبناء الرعية وانتقلت إلى المستوى الطائفي"(79)· إذ إن القناعة والإيمان لم يكونا الدافعين الوحيدين لاعتناق الكثلكة، بل لعبت الخلافات العشائرية دوراً في اختيار الكنيسة أو المذهب· فأسفرت الخلافات العشائرية عن انتقال قسم من الرعية إلى الروم الكاثوليك وغيرهم، مما أدى إلى انخفاض عدد المؤمنين، ففي عام 1912 لم يظل وفياً للبطريركية إلاّ مئة وثلاثون مؤمناً، وكان نصف القرية من أتباع الطقس اللاتيني(80).
ز - إرسالية غــزّة :
زار الأب موريتان غزّة الواقعة على ساحل فلسطين الجنوبي· وقام الأب جولي بعد موريتان بتفقد المسيحيين فيها سنوياً(81)· وفي عام 1879 استقرّ فيها الأب جورج كات (Georges Gatt) ، النمساوي الجنسية ورئيس الهوسبيس النمساوي في القدس سابقاً، وكان قد انضمّ إلى البطريركية عام 1874· وسافر الأب جورج إلى بلاده ليجمع الهبات والتبرعات لبناء الدير والكنيسة، وابتدأ العمل عام 1882، وأنجزه بعد عام· وكان دير غزّة آنذاك من أفضل أديار البطريركية، فهو مكوّن من خمس عشرة غرفة· وظل الأب جورج في غزّة حتى عام 1915، عانى خلالها ضروب الفاقة والحرمان، ونقل عنه الأب بوستّو قوله: "منذ عام وأنا أعاني الجوع ويسألني من يراني كيف حالك! ويظنني مريضا،ً إذ لا يعرف أنني جائع··· أوصي من يستلم الرعية بعدي بالفقراء"(82)، فقد فتح الأب كات ديره للفقراء والمشردين وقاسمهم القليل الذي عنده· وازدهرت رعية غزّة بعد عام 1948 على أثر وصول اللاجئين إليها· أما اللاتين من أهل غزّة فقلائل·
حـ - إرسالية رفيديــا :
أولى الأب دي اكتس مؤسّس رعية نابلس عام 1862، المسيحيين اهتمامه في قرية رفيديا القريبة والذين يذكرهم في مراسلاته(83)· وأسّس الإرسالية الأب انطون رزق خوري نابلس عام 1877 فاشترى ارضاً في رفيديا وعمّر ديراً وكنيسة صغيرين· وكان أحد أبناء رعيته في نابلس أسعد سرافيم عضو مجلس الباشا العثماني في نابلس، فلما عارض الأب انطون أسعد سرافيم في طلاق زوجته، قام الأخير بإقناع الباشا بإيقاف العمل في بناء الكنيسة والدير، واشترط الباشا الف فرنك كهدية لمتابعة العمل، وبعد المفاوضات استقرّت الهدية على الوعد بتقديم ساعة للباشا· ومرة أخرى توقف العمل عام 1882، فكتب الأب انطون إلى البطريرك أن الوقت حان لتقديم الهدية، ونصحه أن تكون ثمينة! فقدمت له البطريركية ساعة ذهبية يقدر ثمنها ب 400 - 600 فرنك(84)· وكان عدد مؤمني رفيديا عام 1882، 110 نسمة، وعام 1883 افتتحت البطريركية مدرسة في القرية·
ط - إرساليــة الزبــابدة :
الزبابدة قرية كبيرة بالقرب من جنين وغالبية سكانها من المسيحيين ويعود أصلهم إلى ثلاث عائلات هاجرت من الطيبة إلى الزبابدة وهي دعيبس واسعيد وابراهيم· ولما زار مرسلو البطريركية القرية عام 1873 وجدوا سكانها في غاية الفقر ويعملون في خدمة عشيرة جرار صاحبة النفوذ في المنطقة(85)· ومسيحيو الزبابدة يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية، وبوفاة خوري الرعية وهو من سكان البلدة شغر منصبه لسنوات، إذ لم تعّين البطريركية خليفة له· وفي عام 1874، اتصل وجهاء الزبابدة بخوري نابلس الأب جوليان بوست وطلبوا منه الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية لعدم وجود خوري أرثوذكسي لرعايتهم، وللدخول تحت مظلة البطريركية اللاتينية التي بوسعها حمايتهم تجاه السلطات العثمانية· فكتب الأب بوست في شأنهم للبطريرك براكّو في 28 تموز 1874، ونجح الأب انطون رزق في إقناع البطريرك بجدوى فتح الإرسالية، فبعث إليهم البطريرك بالأب حنا طراد الماروني(86) في 1/1/1887· واصطحب الأب حنا طراد معلم مدرسة سكن معه في غرفة واحدة متعددة الأغراض: فهي غرفة نوم ومدرسة وكنيسة في آن واحد· وفي شهر أيار 1883، زار الأب انطون رزق زميله الأب حنا في الزبابدة واشترى قطعة أرض مناسبة لبناء كنيسة ودير· وبدأت معركة البناء التقليدية مع السلطات العثمانية، وقد صار لكهنة البطريركية خبرة في هذا المضمار· فالسلطات العثمانية تمنع بناء كنائس جديدة، ولذا فإن البطريركية تقدّم طلباً لبناء بيت صغير للكاهن· وحرص مهندسو هذه البيوت على أن تحوي غرفة كبيرة هي عادة صالة الاستقبال يمكن تحويلها بسهولة إلى كنيسة مؤقتة، إلى أن تتحسن الظروف وتُبْنى الكنيسة الرسمية· ونُقلَ الأب حنا من الزبابدة عام 1887، وفي عصره التحقت راهبات الوردية بالرعية، وفتُحت مدرسة، وبلغ عدد أبناء الرعية 160 نسمة· وعُيّن الأب الياس شيحا خوري رعية، وبنى الكنيسة ودير الراهبات(87).
لم يكتف البطاركة بتأسيس الرعايا وبعث كهنتهم إلى مدن وقرى فلسطين والاردن، بل قاموا بزيارتها والتعرف على المؤمنين وتفقد الكهنة في قراهم وأديارهم· وجرت العادة على أن يقوم البطريرك براكّو بزيارة رسمية كل أربع سنوات لرعاياه، يمنح خلالها سرّي القربان والتثبيت للمؤمنين، ويترك لخوري الرعية تعيين زمن الزيارة· وبلغ عدد اللاتين في أنحاء البطريركية في عصر البطريرك براكّّو 13500 نسمة(88)· ويصف فللانيس هذه الزيارات التي حرص البطريرك على القيام بها بهذه العبارات :
"كان السيد الجليل عند وصوله إلى القرية يدخل اولاً باحتفال كثير في الكنيسة الخورنية أو في المعبد الذي يسدّ مسدّها· وبعد أداء الصلوات المفروضة يمنح بركته للشعب الملتئم··· ومن ثم تنقاد الأهالي إلى التعبير عن عظيم فرحها بأنواع الأناشيد المطربة وبرقصهم المأثور وإطلاق البواريد إجلالاً لضيفهم الخطير· فأول دخوله بدار المرسل كان يقابل مشائخ المحل والوجهاء··· وفي الغد بعد قداسه يكون الاستقبال الرسمي وهم في أثنائه يفصحون لراعيهم عن شديد احتياجهم ويعرضون له سؤلهم لعله يتقبلها ··· أما إن شاء أحد أن يناجيه على حده فيختلي به ويرعيه السمع بكل رفق وأناة، ولو بث ايضاً شكواه من المرسل··· ثم يستقبل أولاد وبنات المدرسة وسائر الوافدين عليه، ولهذا يجود بعطية لتدوم تذكاراً عنده"(89).
وجّه البطريرك براكّو ما مجموعه عشرون رسالة راعوية إلى الإكليروس والشعب، متعددة المواضيع: لاهوتية وعقائدية وأدبية وتربوية··· وصدرت الرسائل الرئيسة قبل بدء الصوم الأربعيني وفي بعض المناسبات الخاصة كوفاة البابوات وانتخابهم واليوبيلات التذكارية، وقرأ الكهنة هذه الرسائل في الكنائس وفسروها للمؤمنين·
أولى المنسنيور براكّو التعليم المسيحي رعايته، فطوّر الكتب المستعملة بتجزئة التعليم المسيحي الذي تمّ تعليمه في كتاب واحد لكل الأعمار إلى كتابين، الأول للأطفال والثاني للبالغين· وطُبعت هذه الكتب في مطبعة الآباء الفرنسيسيين عام 1880· وأوصى البطريرك بتطوير طريقة التعليم المسيحي التي تقوم على الحفظ غيباً إلى اسلوب السؤال والجواب، ونصح المعلمين بشرح التعليم المسيحي وتفسيره· أما البطريرك بيافي خليفته فاكتفى بإعادة طبع الكتب القديمة عدة مرات في بيروت والقدس، ولم يجدد فيها(90).

horizontal rule


- 2 الجمعيات الرهبانية في عهد البطريرك منصور براكّو


توسعت مهام البطريرك فاليركا في سنواته الأخيرة، وتعددت المشاريع التي أقدم عليها وصار للبطريرك براكّو انجازها، ولذا نرى الأخير يعتذر عن قبول منصب قاصد رسولي سوريا ولبنان أسوة بسلفه، ويُعفى من زيارتين رسميتين للأعتاب الرومانية، ليصرف جُلّ اهتمامه لرعاية الإرساليات والمعهد الإكليريكي· ويُلاحَظُ أن المنسنيور براكّو لم يشجع أحياناً الجمعيات الرهبانية على إنشاء أديار في الأبرشية إذا لم يكن ذلك لأغراض راعوية تمسّ حياة المؤمنين، ولكنه عموماً اتّبع سياسة الانفتاح التي انتهجها سلفه، وشجّع الجمعيات الرهبانية على فتح أديار في فلسطين، لحاجة البطريركية إلى عناصر وفعاليات تعمل في سبيل نهضة روحية وفكرية واجتماعية، جنباً إلى جنب مع الإكليروس البطريركي· وأقبلت الجمعيات الرهبانية على إنشاء أديارها في فلسطين لرفعة مقام الأرض المقدسة في قلوب المسيحيين كافة· وهذه الجمعيات الرهبانية متعددة الأغراض فمنها: التأملية والتعليمية والخيرية، ولبعضها اتصال بجماهير المؤمنين بحكم رسالتها، وأخرى انعزلت عن الحياة العامة لانصبابها على الدراسات اللاهوتية والأثرية والتاريخية للبلاد المقدسة أو لانقطاعها للتأمل والصلاة· وبدون شك فإنّ وجود الجمعيات الرهبانية الكاثوليكية ارتبط بسياسة بلادها الأصلية، ونشرت هذه الجمعيات لغاتها من خلال التعليم، كالألمانية والفرنسية والإيطالية· وقد رأى بعض المحللين لتاريخ فلسطين الديني في القرن التاسع عشر أن هذه الجمعيات بمدارسها ومستشفياتها ومؤسساتها، حققت التوازن تجاه الجمعيات الإنكليزية البروتستنتية والروسية الأرثوذكسية· ونظرة التوازن والتنافس هذه لم تكن قصراً على كنيسة معينة بل عمّت جميع الكنائس، وعُدّت قاعدة للتعامل في السلطنة العثمانية في ظل نظامي الامتيازات والملل·
ازدهرت مؤسسـتا البطريركية المعـهد الإكـلـيريـكي وجمعية فـرســان القبر المقدس الخيرية· ففي عصر البطريرك براكوّ تخرج في المعهد الإكليريكي 23 كاهناً، موزعين على النحو التالي: 19 للإكليروس البطريركي، واحد لمؤسسة الأب بلّوني، 3 للكنائس الشرقية· وحسب الجنسية: منهم 17 عربياً و 6 أجانب(91)· وفي جمعية فرسان القبر المقدس الخيرية اقتصرت العـضـوية علـى الرجال، واسـتثنى البـطريـرك فالـيركـا مـن هـذه القـاعـدة كونتيسـة إنكلـيزية من أصل روسي تدعى ماري فرنسيس لوماكس (Mary Francis Lomax)، قُبلت عضويتها في 51نيسان1871، بعد أن رفعت التماساً إلى البابا بيوس التاسع· أما البطريرك براكّو فقد فتح باب الانتساب للسيدات وبلغ عددهن بين سنة 1873 - 1889 مائة سيدة· وصدرت براءة بابوية بعنوان "Venerabilis Frater" في عهد البابا ليون الثالث عشر، في 3 آب 1888، تحدد عضوية السيدات أسوة بالرجال، وتوزعهن على ثلاث مراتب، وسميت السيدات المنتسبات للجمعية بـ "سيدات القبر المقدس"· وفي عهد البطريرك براكّو انتشرت الجمعية في مختلف أنحاء أوروبا والعالم الجديد(92)· أما الجمعيات الرهبانية التي فتحت لها أدياراً في فلسطين في عهد البطريرك براكّو فهي التالية(93):
أ - الراهبات الكرمليات(94):
زارت الأميرة الفرنسية أوريلي دي بوسي (Aurélie de Bossi) المعروفة بالأميرة دي لا تور دوفيرن (Princesse de la Tour d'Auvergne) فلسطين سنة 1856، وعاشت في دير راهبات صهيون في القدس، وقد نذرت بقية حياتها للعيش في الأماكن المقدسة· واشترت الأميرة عام 1868 قطعة أرض على جبل الزيتون في شرق القدس تحوي آثار قديمة، وحسب تقليد مسيحي قديم علّم السيد المسيح تلاميذه هناك الصلاة الربية >أبانا الذي<، وتمّ امتلاك الأرض على يد موظف في القنصلية الفرنسية يدعى حنا كارلو· وعزمت الأميرة على بناء مزار في الموقع، "وأحبّت أن تراقب سير العمل، ولما لم يكن في المنطقة بيوت للسكن استقدمت من باريس شاليهاً خشبياً وسكنته مدة عشر سنوات"(95)· أما الأرض فقد وهبت ملكيتها للحكومة الفرنسية· وفي عام 1872 التقت الأميرة براهبتين كرمليتين أتيتا القدس للحج، فخطر ببالها إنشاء دير لهن في القدس، وحال دون فكرتها قرار بابوي صدر عام 1862 يحدد إقامة الراهبات في فلسطين، "بالحصول على موافقة الحبر الأعظم ومجمع نشر الإيمان وبطريرك القدس وكان آنذاك المنسنيور فاليركا· وبعد الاتصال بالجهات المعنية وافق البطريرك على إنشاء الدير واشترط أن يؤمَن للراهبات دخلٌ يفي بمعيشتهن وبناء سور حول الدير لحمايتهن"(96)، وتوفي البطريرك قبل البدء في تنفيذ المشروع· في 30/10/1877، وصلت الراهبات الكرمليات الثلاث المؤسسات من دير كربنترا(Carpentras) بفرنسا وحللْن ضيفات على راهبات ماريوسف طوال عام، حتى يتم بناء ديرهن في القدس، ودشّنه البطريرك منصور في 18 حزيران 1874، وانتهى العمل به كلياً عام 1886·
التمست راهبات دير الكرمل في بو (Pau) بفرنسا بدورهن من الكرسي الرسولي إنشاء دير كرملي آخر في بيت لحم· وكانت وراء المشروع الراهبة الكرملية العربية مريم يسوع المصلوب(97)، وكانت الأخت مريم يسوع المصلوب تحثّ على تأسيس دير الكرمل في بيت لحم، وتردد مراراً إنّ الله يريد هذا المشروع وأنه سيمهد جميع العقبات في الساعة التي يريدها(98)· اعترض البطريرك على المشروع الجديد، "فإن الأبرشية بحاجة ماسة لمرسلين وليس لرهبان تأمليين"(99)· ولكنه عدّل موقفه بعد إلحاح الأساقفة الفرنسيين المعنيين بإنشاء الدير· "سافرت الأخت مريم يسوع المصلوب مع عدد من راهبات كرمل بو متوجهات إلى فلسطين لإنشاء دير لهن في بيت لحم، ووصلن مدينة القدس ومكثن فيها بضعة أيام لزيارة الأماكن المقدسة ثم توجهن إلى بيت لحم، وكان ذلك في أيلول 1875· وبإلهام من الله دلّت الأخت مريم يسوع المصلوب رؤساءها على أكمة مقفرة إلى جهة الغرب من المدينة وقالت: هناك يُبْنى الدير· وفي بيت لحم استأجرت الراهبات بيتاً للسكن ريثما يتم بناء الدير، وقد احتفل البطريرك المنسنيور منصور براكّو بالقداس الإلهي في ذلك البيت، وأمر الراهبات بالتحصن فيه"(100)· وتم ّبناء دير الراهبات الكرمليات في بيت لحم في 21/11/1876· وأنشأت الراهبات ديرين آخرين في حيفا عام 1891 وفي الناصرة عام 1910· ورسالة الراهبات الكرمليات هي الصلاة والتأمل في الخفاء، ويعشن من عمل أيديهن متحصنات في أديارهن·
ب - إخوة المدارس المسيحية (الفرير)(101):
أنشأ الفرير مدارسهم الأولى في مصر عام 1847، ومن مصر قادتهم الظروف إلى فلسطين: "كانت الظروف التي أدت إلى انتشار مرض الكوليرا في مصر والصعوبات المالية الكبيرة التي واجهتهم بالاضافة إلى انتشار حملة كره للأجانب، من العوامل الهامة التي دفعت الأخ ادريان (Adrien) مدير مدارس الإسكندرية إلى أن يكتب إلى المسؤولين عنه طالباً الإذن بإرسال مجموعة من الإخوة للحج إلى الأرض المقدسة· فقامت مجموعة منهم بصحبة الأخ ايفاغر (Evagre) بالإبحار من مدينة الإسكندرية إلى فلسطين"(102)· وتمت هذه الرحلة عام 1874، وفيها التقى ايفاغر بالقنصل الفرنسي في القدس وحارس الأراضي المقدسة والبطريرك براكّو ولاقى من الأخير تشجيعاً وترحيباً، ونسّق مع مجمع نشر الإيمان وحراسة الأراضي المقدسة أن يتولى إخوة المدارس المسيحية مدارس الأولاد في بيت لحم وحيفا والناصرة ولارنكا في قبرص·
"مع بداية السنة المدرسية في تشرين الثاني عام 1878 سلّم الفرنسيسيون طلاب مدرستهم الراعوية لإخوة المدارس المسيحية· وشكّلت مجموعة الطلبة هذه نواة لأعداد كبيرة من الأولاد سيقوم الإخوة بتدريسهم وتربيتهم في الأرض المقدسة"(103)· وقدمت البطريركية للإخوة ارضاً بجوار دار البطريركية لإنشاء مدرستهم الخاصة عليها· وفي عام 1882 وُضِعَ حجر الأساس لمدرسة في يافا، وفي حيفا عام 1883، وفُتِحَت دار الإبتداء في بيت لحم عام 1885 لتنشئة الشبان العرب الراغبين في الانضمام لحياة الإخوة الرهبانية· وفي عام 1892 فُتحَت مدرسة لإعداد المعلمين في بيت لحم تهدف إلى إعداد الشباب الفلسطيني من أجل الحصول على التأهيل الضروري للتدريس في مدارس الإخوة فيما بعد·
طوّر إخوة المدارس المسيحية نظام المدارس وأسلوب التعليم المتّبع منذ قرون· فتجاسر الإخوة على إلغاء عادة قديمة في القدس وهي توزيع الخبز والأطعمة على الطلاب لاقتلاع >عادة - عقلية التسوّل<(104) من نفوسهم· فثارت العائلات المتعودة على الكرم الفرنسيسي، وقد أدمنت عادة توزيع الخبز منذ قرون واحتجت على النظام الجديد: "إن هذا الإجراء أدهش وكدّر العائلات المعتادة منذ سنين طوال على سخاء الآباء الفرنسيسيين، وتدريجاً خمد غضبهم ولم يفقد الإخوة ولو طالباً واحداً لهذا السبب"(105)· ونالت اللغّات جُلّ اهتمام الإخوة، فدرّسوا في مدارسهم أربع لغّات: العربية والفرنسية والإيطالية والإنكليزية"(106)· وحظيت اللغة العربية برعاية الإخوة: "ولم يكن للعربية شأن في المدارس الإرسالية في فلسطين، وكان معهد الإخوة في القدس أكبرها· فآلم ذلك مجموعة من الإخوة العرب الذين كانوا يعدّون مدارسهم ركناً من أركان التعليم الضرورية في البلاد العربية· فأخذوا على عاتقهم تحسين وضع الدروس العربية، فأصبحت مدارس الفرير عماد اللغة العربية وركنها والمدرسة العليا في فلسطين لمن رغب في التضلع في العربية"(107)· وتوفي مؤسّس مدارس الفرير في فلسطين الأخ ايفاغر في 26/1/1914·

جـ - آباء القلب الأقدس ( آباء بيترام )(108):
طلبت كرمليات بيت لحم من البطريرك براكّو السماح لآباء القلب الأقدس بالمجيء إلى بيت لحم، وإنشاء دير لهم للقيام بخدمتهن الروحية، فأجابهن البطريرك: "لا يُسمح لهم الإقامة في بيت لحم إلا بإذن رسمي من روما"(109)· فتقدمت الراهبات بطلبين متتاليين إلى روما قوبلا بالرفض· وحقّق مشروع الكرمليات محسنة ديرهن الذي شيدته من مالها الآنسة بيرث دي سان كريك دارتيچو (Berthe de St Cricq Dartigaux)، فقابلت البابا ليون الثالث عشر الذي أقرّ طلبها في 14/9/1878، "وقرر البابا أيضاً قبول ارتحال آباء قلب يسوع الأقدس إلى فلسطين للقيام بخدمة ذلك الدير عينه· ووصل أول أبناء الأب ميشيل كريكوئيتس وهو الأب شيرو إلى بيت لحم عام 1879"(110)· وكان لا بدّ لآباء بيترام من بناء دير يقيمون فيه فتركوا للأب شيرو صلاحية العمل في المشروع، فوضع الأسس لعمارة ضخمة أثارت احتجاجات وتشكيات شديدة· ولكن الأخت مريم يسوع المصلوب التي كانت تساعد الأب شيرو، اكتفت بأن قالت له: "لا تأبه بما يقال، فإن الدير سيضيق في المستقبل بأهله لأنهم سيأتون إليه من بيترام جماعات وأفواجاً"(111)· وسكن الدير ثلاثة آباء حتى عام 1890،ولكن "اضطرّ الاضطهاد أبناء الأب ميشيل إلى النزوح عن فرنسا، فجاء الطلاب الإكليريكيون إلى بيت لحم، وأصبح الدير بمثابة المدرسة الإكليريكية للجمعية البيترامية"(112)· ويذكر كونيل أن عددهم عام 1898 كان ثلاثين راهباً يقدمون الخدمات الروحية للجمعيات الرهبانية في القدس وبيت لحم(113)· وفي مطلع القرن العشرين فتح آباء بيترام ديرين في الناصرة وعمواس(114).
د - جمعية >أحسنوا أيها الإخوة< (رهبان القديس يوحنا)"(115):
وُجدِت جمعية >أحسنوا أيها الإخوة< في فلسطين منذ عام 1857، "وكانت تعمل عن طريق عيادة متنقلة هنا وهناك بين خيام البدو"(116)· وفي عام 1869 ابتاع الكونت برنار كابوجا (Bernard Caboga)، وهو القنصل النمساوي الهنغاري في الأراضي المقدسة، أراضي منطقة طنطور الواقعة بين القدس وبيت لحم، وذلك بمساعدة سخية من رهبان جمعية مالطا وبعض أعضاء الطبقة الأرستقراطية في المانيا(117)· وفي سنة 1876 تمّ في تلك المنطقة بناء مركز تحت اسم >ملجأ الجمعية العسكرية العليا المالطية<، احتوى على عيادة طبية وصيدلية، وبعدئذ مستشفى صغير اتسع لسبعة أسرّة عام 1877·
في سنة 1879 أوكل الـكــونت كابوجــا إدارة مركــز ومستشفى الطنطور لجمعيــة > أحســنوا أيـها الإخـوة <، وكـان الـرهـبان بـرئـاســة الأب اوثـمـارمـايـر (Othmar Mayer)· أما اختيار رهبنة >أحسنوا أيها الإخوة < فيرجع إلى أن هذه المؤسّسة النمساوية كانت تحت حماية فرنسوا جوزيف امبراطور النمسا· "ولا شك أن عاملي المحبة والدين كانا الدافع لهذا العمل الخيري العظيم، ولكن هناك دافعاً آخر ألا وهو إظهار وتأكيد رغبة النمسا في الحضور في الأراضي المقدسة ومنافسة القوى الكاثوليكية الأوروبية الأخرى"(118).
انقطع الرهبان عن العمل في المستشفى على أثر "سوء تفاهم كبير وقع بين الأب ماير والكونت كابوجا، وكانت لهجة هذا الأخير قاسية جداً، فترك الأب ماير ورفاقه طنطور، وهكذا أوقف العمل في مركز الطنطور"(119)· وفي عام 1890 استؤنف في الطنطور على فترات متقطعة حتى عام 19200
كان ترك الأب ماير العمل في الطنطور السبب غير المباشر لتأسيس مستشفى في الناصرة، إذ إن الأب المذكور حاول افتتاح مستشفى في بيت لحم وغزّة فلم يفلح، فوجّهه المنسنيور براكّو إلى افتتاح مستشفى الناصرة عام 18840 وبلغ استيعاب المستشفى عام 1899 ثلاثين سريراً وبُنيت كنيسة خاصة للمستشفى عام 1901(120).
هـ - الدومنيكيون (121):
زار الأب ماتيه لوكونت(Mattieu le Comte) الدومنيكي فلسطين عام 1882، وقد عزم "على إحياء الحياة الرهبانية الدومنيكية في فلسطين، إذ كانت مزدهرة في الأرض المقدسة في العصور الوسطى"(122)· وفي هذه الأثناء تمّ اكتشاف أثري في حي المصراره (شمالي باب العامود خارج أسوار القدس)، والآثار المكتشفة عبارة عن كنيسة بنتها الإمبراطورة ادوكسيا عام 460م في الموضع التقليدي الذي يقال إنه استشهد فيه الشماس اسطفانوس· تنافس كثيرون على شراء الموقع، "وكان النصر حليف شخص غريب يزور فلسطين هو الأب ماتيه الدومنيكي"(123)· وتمّ شراء الأرض على مراحل بين عام 1883 - 1888· وشرع الأب لوكونت بإصلاح وترميم مبنى قديم مهجور يقع في الأرض التي اشتراها، وحوّله مسكناً للرهبان الدومنيكيين، واستقرّ فيه الرهبان في كانون الأول 1884 وهــم: الأب لوكــونت والأب جــان موميس(Jean Maumus)· والأخ تـوما تابان .(Thomas Tabin) وبدأت أعمال الحفريات والتنقيب والترميم، فبان مخطط الكنيسة البيزنطية القديمة· وبنى الدومنيكيون كنيسة كبيرة على اسم القديس اسطفانوس، جرى تدشينها في 13 ايار 1890، وتمّ العمل بالدير عام 1891· وقد خطفت يد المنون العديد من الآباء الدومنيكيين الأوائل الذين ساهموا في بناء الدير والكنيسة، فقيل في ذلك: "لقد قام دير القديس اسطفانوس على القبور"(124):
في عام 1888، طرح الدومنيكيون في القدس فكرة إنشاء كلية للاهوت في ديرهم لتدريس علوم الكتاب المقدس واللغّات الشرقية، وكان البابا ليون الثالث عشر يحبذ هذه الفكرة· فلما عُرِضَ المشروع على البطريرك براكّو "صادق عليه ورغب في أن يتولى هو مخاطبة البابا ورئيس الآباء الدومنيكيين العام بذلك"(125)· وتحقّق حلم الآباء الدومنيكيين وافتُتِحَ >المعهد التوراتي< (L'Ecole Biblique) في تشرين الأول 1890· ومن معلمي هذا المعهد العلامة المشهور في دراسات الكتاب المقدس الأب لاكرانج (Lagrange)· وتسلّم الأب المذكور رئاسة الدير والمعهد التوراتي· وأصدر المعهد في عام 1892 مجلة متخصصة في دراسات الكتاب المقدس >المجلة التوراتية< (La Revue Biblique) ، والمعهد والمجلة قائمان حتى يومنا هذا· والمعهد التوراتي متخصص في الدراسات العليا في الكتاب المقدس والأبحاث الأثرية الفلسطينية واللغّات الشرقية القديمة، ويؤمّه طلاب العلم من مختلف أنحاء العالم للاشتراك في مساقاته، وفضلاً عن مساقات المعهد العليا في العلوم التوراتية هناك مساقات عادية في الفلسفة واللاهوت، إذ ألحق بالدير عدد من طلاب الرهبانية الدومنيكية إكليريكيين ومبتدئين عام 1892· وبلغ عدد الرهبان في القدس عام 1894 أربعة وثلاثين راهباً(126).
و - راهبات القديسة كلارا - الكلاريس(127):
جـــاءت راهــبات القديســـة كلارا إلى فــلسطين من ديـــر بـاريــه لومونيــال (Paray le Monial) في فرنسا· وكُنّ قد طلبن من البطريرك براكّو الإذن في إنشاء دير في فلسطين فأجابهن مبدئياً بالموافقة· وبعد بضعة أسابيع جاءت الراهبات إلى القدس وكان عددهنّ خمس عشرة راهبة يطلبن مقابلته، ففوجىء البطريرك بمجيئهنّ، إذ كان جوابه لهنّ مبدئياً ولم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستقبالهنّ في أبرشيته(128)· فأشار عليهنّ البطريرك بالتوجه إلى الناصرة، وهناك سكنت الراهبات داراً مؤقته حتى يتم بناء الدير· وفي عام 0981 فُتِحَ دير آخر لراهبات القديسة كلارا في القدس· وتعيش راهبات القديسة كلارا حياة خفية في التأمل والصلاة، وهن أشبه بالكرمليات·
ز - فرنسيسيات قلب مريم الطاهر(129):
أنشأ الآباء الفرنسيسيون عام 1871 ميتماً في القدس، وبحث حارس الأراضي المقدسة عن رهبنة نسائية ليكل إليها أمر ميتمه· فأرسلت مؤسّسة الرهبنة الأم كاترينا تروياني من مصر ثلاث راهبات إلى القدس ليشرفن على الميتم· فقد جاء في سجلات رهبنة فرنسيسيات قلب مريم الطاهر لشهر شباط 1885 ما ملخصه: "إنّ حارس الأرض المقدسة جاء القاهرة، وطلب ثلاث راهبات لإدارة ميتم الأرض المقدسة للإناث، وعليه فبعد مرور خمس عشرة سنة من محاولتنا لدخول الأماكن المقدسة، ها هو طلب عفوي يملأ منّا القلب فرحاً وابتهاجاً··· فقد وافقت المؤسّسِة على الطلب، وجعلت الأم النائبة في كلوت بك واسمها كولومبا فيولا على رأس الفوج الأول"(130)· وفي 28شباط 1885، تسلّمت الراهبات إدارة الميتم، وقد شغلت المؤسِّسة الأم كاترينا لفترة وجيزة رئاسة هذا الميتم·
حـ - رهبنة الوردية الأورشليمية:
جمعية راهبات الوردية مؤسسة رهبانية عربية محلية تقبل في عضويتها الفتيات العربيات ، أسّسها الأب يوسف طنوس من كهنة البطريركية اللاتينية الأوائل وقد شغل عدة مناصب: أمين سر البطريركية اللاتينية وممثلها لدى السلطات العثمانية ونائب البطريرك فاليركا في قصادة بيروت ومستشاره في المجمع الفاتيكاني الأول· وبحكم موقعه في الإكليروس البطريركي، أطّلع الأب طنوس على ما يعانيه الكهنة في إرسالياتهم وخصوصاً تجاه عالم المرأة، فهي جاهلة غير مثقفة وبعيدة عن الكنيسة(131)، ففكّر بإنشاء رهبنة محلية،" لرفع مستوى المرأة العربية دينياً وأخلاقياً وإنسانياً وجعلها قادرة على تربية أولاد صالحين"(132)· من جهة أخرى "كان على كل شابة تريد الترهبن، أن تغادر الوطن إلى فرنسا لمتابعة الدراسة، وكان ركوب البحر مجازفة كبيرة والذهاب إلى الغرب تحدياً لتقاليد العائلات المسيحية"(133).
فلما سألت سلطانة دانيل غطاس المولودة في القدس عام 1843 أباها أن تترهبن رفض طلبها للسبب المذكور أعلاه· ولكن سلطانة أخيراً التحقت بجمعية راهبات مار يوسف عام 1858، "وكانت أول فتاة فلسطينية تلتحق بهذه الرهبنة وأطلق عليها في الرهبنة اسم ماري الفونسين"(134)· وسَتُقَاسم ماري الفونسين الأب طنوس أمله في إنشاء رهبنة وطنية· وسار كل منهما إلى هدفه في درب مختلف، وسيلتقيان فيما بعد في مشروع رهباني وطني واحد، وهو جمعية رهبنة الوردية الأورشليمية·
طرح الأب طنوس فكرة إنشاء رهبنة وطنية على البطريرك براكّو فلاقت قبولاً واستحساناً· وكان الأب يوسف مرشداً لأخوية بنات مريم، وتضم الأخوية عدداً من الفتيات المقدسيات التقيات، فعرض الأب يوسف مشروعه عليهنّ، فإذا بعضهنّ يتمنى وجود مثل هذه الرهبنة لتحقيق دعوتهنّ· "كانت خمساً الفتيات اللواتي قررن في البداية تكريس ذواتهنّ لله في الرهبانية الجديدة· وكنّ من عائلات القدس العريقة، وهذه اسماؤهن: ريجينا كارمي وعفيفة ابو صوان وجليلة عبيس وحنة غطاس وأمينة حبش· وقد واجهن من الأهل والأقارب مقاومة عنيفة· صحيح أن الناس يحترمون الراهبات ويقدرون أعمالهنّ في المدراس، ولكنهم يرفضون أن تصبح بناتهم راهبات"(135) واجتازت الفتيات مرحلة المعارضة التقليدية وفزن بمبتغاهن· وفي 24 تموز 1880، تحصنّ ببيت بقرب دار البطريركية، والتحقت بهنّ أربع فتيات أُخر فصرن تسعاً، وفي 15 كانون الأول، منحهنّ البطريرك الثوب الرهباني في احتفال خاص·
أما الراهبة ماري الفونسين فظلّت تراودها فكرة تأسيس رهبنة وطنية· وتأكد عزمها بظهور العذراء لها مرات متتالية منذ عام 1874، ودارت الظهورات حول دعوة الراهبة والرهبنة المزمع إنشاؤها· فتوجهت الراهبة إلى البطريرك والأب يوسف طنوس الذي رأى في الراهبة الرائية إشارة سماوية لمتابعة مشروعه الرهباني· ثم انتقلت الأم ماري الفونسين من جمعية راهبات مار يوسف إلى رهبنة الوردية الجديدة في 7 تشرين الأول 1883· وأمرها مرشدها الأب يوسف بكتابة مذكراتها حول ظهورات العذراء لها· وظل سرّها مكتوماً وعاشت حياة خفية بسيطة، ولم يطلع أحد على سرّها حتى اختيها حنة وريجينا اللتين انضمتا إلى الرهبنة الوردية قبلها· فأختها حنة التي غدت رئيسة عامة للرهبنة جهلت حقيقتها إلى أن اطّلعت على مذكراتها بعد وفاتها، "كان الخامس والعشرون من اذار سنة 1927، هو اليوم الذي انتقلت فيه الأم ماري الفونسين إلى رحمة الله· ولما دفنت بعد ذلك بأيام قلائل، لم يدر في خلد اي من راهبات الوردية أنّ المؤسِّسة الحقيقية للرهبنة قد غابت عن الوجود"(136)· ولهذا تعُدّ راهبات الوردية الأم الفونسين مؤسِّستهنّ بجانب الأب يوسف طنوس·
عيّن الأب يوسف طنوس للراهبات المبتدئات معلمة هي الأخت روزالي ناصر من راهبات الناصرة· وفي 7 اذار 1885، أبرزت المبتدئات النذور الرهبانية الكبرى، "وأخذنّ ينتظرنّ التعيين في إرسالياتهنّ الجديدة"(137)· فوجدت بهنّ البطريركية خير رديف لكهنة البطريركية للعمل في القطاع النسائي، وعملهنّ الرئيس تعليم الدين المسيحي في مدارس البنات وتلقين مبادئ اللغة والخط· في يوم من الأيام سألهنّ البطريرك براكّو: "ما قولكنّ لو أرسلتكنّ إلى الكرك؟ (وكانت الكرك أقصى ما يمكن الوصول إليه عندئذ في جنوب شرق الأردن) فأجبن بحماسة يا سيدنا إننا مستعدات للذهاب إلى أبعد حدود البلقاء أيضا"(138) وكانت المجيبة عن سؤال البطريرك تظن أن البلقاء أبعد من الكرك، وفهم البطريرك مقصدها النبيل، أي أنهنّ مستعدات للذهاب إلى أي مكان يعينه البطريرك لهنّ·
لكن ساعة الذهاب إلى شرق الأردن لم تحن بعد، فاتفق البطريرك والأب يوسف طنوس على إرساء قواعد الرهبنة أولاً في فلسطين· وتوفي الأب يوسف طنوس بالناصرة في 30 ايلول 1892، ونقل رفاته إلى القدس حيث دفن في دير راهبات الوردية في ماميلا بالقدس
(139).
وما هي إلا بضع سنوات حتى كانت راهبات الوردية العربيات يعملنّ في معظم رعايا البطريركية، عاشت الراهبات في السنوات الأولى حياة مضنية في الرعايا، ونالهنّ ما نال كهنة البطريركية من جهود ومشقات(140).
ط - راهبات المحبة(141)·
جاءت راهبات المحبة إلى فلسطين في ايار عام 1886 برئاسة الأم ليوني سيّون (Leonie Sion) ووصفهنّ عامة الناس بأنهنّ الطبيبات الآتيات من باريس(142) إذ تخصصت الراهبات بأعمال التمريض ورعاية الأطفال· وخير وصف لنشاطهنّ جاء في مذكرة الأم ليوني (143)· ووجهت الراهبات عنايتهنّ للمرضى من خلال الزيارات البيتية والمسـتوصفات والعـنايـة بالبـرص والأطـفـال المـتروكين والعجزة والمكفوفين · وافتتحت الراهبات عام 1887 مستشفى في بيت لحم وآخر في الناصرة عام 1898، وتسلّمت الراهبات الإشراف والإدارة في المستشفى الحكومي بالقدس عام 1891· ولهنّ مدرسة في حيفا منذ عام 1889، وبُنِيَ موقع حديث لمستشفى بيت لحم في مطلع القرن العشرين·
ي - الآباء الانتقاليون(144):
استقر الآباء الانتقاليون في القدس عام 1882 وغايتهم استقبال الحجاج وإرشادهم في الأماكن المقدسة(145)· واشترى الآباء الانتقاليون أرضاً فسيحة شمال غربي القدس، وبنوا عليها نزلاً فخماًً للسياح والحجاج، نوتر دام دي فرانس، أي العذراء سيدة فرنسا (Notre Dame de France)، ودُشّن جزء منه عام 1888· ونقل الآباء الانتقاليون إلى النزل بعض طلابهم الإكليريكيين وأساتذتهم، واستوعب النزل أعداداً وفيرة من الحجاج القادمين لزيارة القدس· وفي عام 1890 فُتِح باب خاص في سور القدس مقابل النزل سمّي >بالباب الجديد< كي يتمكن الحجاج من الوصول إلى كنيسة القيامة بطريق مختصرة·
ك - راهبات القديس شارل(146):
جاءت راهبات القديس شارل إلى القدس من الإسكندرية حيث كان لهنّ دير هناك، وقد طلبت الراهبات من البطريرك براكّو إنشاء مدرسة للجالية الألمانية، فأذن لهنّ بعد الحصول على موافقة مجمع نشر الإيمان· فتحت الراهبات مستوصفاً ومدرسة داخلية عام 1886، وعرفت مدرستهنّ بمدرسة شميدت نسبة إلى مرشد الراهبات الأب فلهلم شميدت (Wilhelm Schmidt) وهو من الرهبان العزاريين·
ل - راهبات القربان (147):
دخلت هذه الجمعية فلسطين عام 1888 وقد شجّعها البطريرك براكّو على بناء دير لها بالقرب من نزل نوتر دام دي فرانس، وانقطعت فيه الراهبات للعبادة والصلاة·

horizontal rule


3 - البطريركية اللاتينية الأورشليمية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين - عصر ما بعد براكّو:


توفي البطريرك منصور براكّو عن عمر يناهز الرابعة والخمسين عاماً، قضى منها ستة عشر عاماً بطريركاً للقدس، وازدهرت البطريركية بالرعايا التي أسّسها والمؤسسات الرهبانية التي دخلت في عصره للعمل في الأبرشية الأورشليمية· وعُرِفَ المنسنيور براكّو بضعف البنية والصحة: "طالما أشار عليه كثيرون بالذهاب إلى اوروبا ليذوق قليلاً طعم الراحة ويلتفت إلى معالجة صحته المنهوكة، ولكنه وإن كثر منهم الإلحاح عليه يجد دائما سبيلاً إلى الخلاف فلا يتحكم عليه برهان ولا يقطع بحجة· واما إذا اقترحوا عليه الاستحمام بالمياه المعدنية فيجيبهم قائلاً: قد سبق لي مرة أني اختبرتها لما أرسلني إليها السيد فاليركا وقد كنت يومئذ أسقفاً، فلم أخرج منها على طائل ومنفعه"(148)· وفي السادس من حزيران 1889 شعر بألم في خاصرته، فلزم الفراش· واشتدّ عليه المرض ودعا الأطباء لعيادته وصرحوا في اليوم الرابع عشر منه، "بأنه داء عقام لا دواء له"(149)· وبعد نزاع دام عدة أيام، أسلم الروح في فجر التاسع عشر من حزيران 1889· لم تكن وفاة البطريرك أمراً خاصاً بكهنة البطريركية، بل كان حدثاً عاماً لما للبطريرك المتوفى من شعبية، "وما زال الشعب يتقاطر أفواجاً إلى أن فات المساء وخيم الظلام· فكنت ترى ليس الكاثوليكيين فقط بل الروم والمسلمين والبروتستنت واليهود وغيرهم أيضاً يتراكضون إلى زيارته وينادون به بصوت واحد رجلاًَ قديساً"(150)· وأبّنه حارس الأراضي المقدسة جاكموكيتزي (Giacomo Chezzi)، ودفن في كنيسة البطريركية الكون كاتدرائية·
أ - البـطـريـرك لـودفـكـو بـيـافــي:
في الثامن من أيلول 1889، وصل بموكب رسمي ضمّ كهنة البطريركية ورهبان حراسة الأراضي المقدسة البطريرك الجديد لودفكو بيافي، وقيل فيه: إنّه دبلوماسي جامد الملامح، يخفي وراءها قلباً يطفح بالحيوية، وهو راهب فرنسيسي أهلته السنوات الثلاث والثلاثون التي قضاها في الشرق لمنصب بطريرك القدس(151).
ولد بيافي في بلدة رفينا (Revena) بـإيطاليا في 17 اذار 1833 وعندما بلغ السبعة عشر عاماً التحق بالرهبنة الفرنسيسية، وارتسم كاهناً عام 1855، ودخل في خدمة حراسة الأراضي المقدسة التي أرسلته إلى حريصا لتعلم العربية فأتقنها وعيّن في حلب، وبعد فترة وجيزة تسلّم إدارة الكلية الفرنسيسية فيها· على أثر وفاة البطريرك فاليركا سنة 1872، عُيّنَ قاصداً رسولياً لبلاد سوريا ورسم أسقفاً في 18 تشرين الثاني 1876· وبعد وفاة المنسنيور براكّو وقع اختيار الكرسي الرسولي هذه المرة على أحد أبناء مار فرنسيس الأصاغر، وكان اختياراً موفقاً، إذْ في مدة خمسة عشر عاماً استثمر البطريرك بيافي اتصالاته الفرنسيسية لخير البطريركية(152).
استعان البطريرك الجديد بأسقفين مساعدين لإدارة أبرشيته، وهما باسكال ابوديا سنة 1891 ولويس بيكاردو سنة 1902· وفي عهد بيافي عقد المؤتمر القرباني بالقدس سنة 1893 وزار إمبراطور المانيا فلهلم الثاني القدس عام 1898·
لم يكوّن بيافي رعايا جديدة إلاّ رعية المجيدل، وعهد بها إلى الآباء الفرنسيسيين· فقد توسع سلفاه فاليركا وبراكّو في إنشاء الرعايا، أما دوره هو فتقوية هذه الرعايا وتثبيتها: "وجّه المنسنيور بيافي جهوده إلى تطوير الرعايا القائمة وتزويدها بالمرافق الضرورية وليس لفتح رعايا جديدة· فمعظم الإرساليات مزودة بكنائس وأديار مؤقته لا تتناسب وعدد المؤمنين وغير صحية لسُكنى المرسلين· ومن حسن حظ البطريرك أن يجد بين كهنته مهندساً موهوباً ومخلصاً هو الأب باربيرس الذي أشرف على بناء المعهد الإكليريكي في القدس سنة 1890 - 1891"(153)· كوّن باربيرس حوله في القدس فريقاً من العمال المهرة طاف بهم إرساليات الأبرشية يبني الكنائس والأديار أسوة بمهندس بارع آخر هو الأب موريتان في بداية الإرساليات البطريركية· فبنى باربيرس أديار راهبات الوردية في الزبابدة (1893) وفي جفنا (1895) وفي مادبا (1897) وكنيسة الحصن (1897) ومنزل خوري الحصن (1815)· وأضاف أجنحة جديدة في دير مادبا (1893) والكرك (1898) والسلط (1902)(154)· أما السبب في التوقف عن إنشاء رعايا جديدة، قد يكون سياسة البابا ليون الثالث عشر خليفة بيوس التاسع الذي شجّع على دعم الطوائف الشرقية الكاثوليكية المتحدة بروما، وربما على حساب البطريركية اللاتينية؟! فالمؤتمر القرباني الذي عُقد في القدس سنة 1893 شكّل أول اعتراض علني على سياسة مجمع نشر الإيمان المتبعة منذ قرون، والرامية إلى توسيع رقعة الكثلكة في فلسطين والبلاد المجاورة من خلال الطقس اللاتيني والمرسلين اللاتين، وجلّهم من الإيطاليين· وقاد معارضة تيار اللتْنَنَة البطاركة الشرقيون والشخصيات الفرنسية في المؤتمر ممثلة بالآباء البيض والآباء الإنتقاليين· ومثل التيار اللاتيني الرهبان الفرنسيسيون والبطريركية اللاتينية وأنصار مجمع نشر الإيمان. فلعل في سياسة البابا ليون الثالث عشر والمؤتمر القرباني تعليلاً للحد من إنشاء الرعايا اللاتينية، ولكن إلى حين(155).
أما المعهد الإكليريكي(156) فقد تخرّج فيه في عصر البطريرك بيافي ثمانية عشر كاهناً: اثنا عشر منهم عرباً، أحدهم الأب سليم الزعمط أول كاهن بطريركي أردني(157)· كما بلغ التنافس أشدّه بين الجمعيات الفرنسية والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في إنشاء المدارس· "وكان مرسلو البطريركية يتلقون العون من الإكليروس الماروني والآباء الفرنسيسيين وإخوة المدارس المسيحية وآباء صهيون والسالسيين وراهبات مار يوسف وراهبات صهيون وراهبات القديس شارل والراهبات السالسيات، إذ إن هذه الرهبنات كانت تدير في فلسطين حوالي خمسين مدرسة مزدهرة· وموّلت الجمعيات الفرنسية معظم هذه المدارس الكاثوليكية التي تقع في المدن الكبرى كالقدس ويافا وبيت لحم وحيفا والناصرة، ولكن القرى من ناحية أخرى لا تزال مهملة··· فعلينا أن نقوم بجهد خاص نحوها، وهذا ما بدأت بعمله جمعية كولون (Société de Cologne)"(158)· وجمعية كولون تسمى أيضاً جمعية الأرض المقدسة (Das Heilige Land Verein)، وأسِّست سنة 1855 في كولون لدعم الكثلكة بفلسطين(159)· وللجمعية خمس مدارس في شمال فلسطين: دير حنّه وسخنين وعيلبون وعرّابه ومغار، "وفي هذه المدرسة الأخيرة وجِدَت بعض البنات فكانت المدرسة المختلطة الأولى في فلسطين"(160)· فقد كرّس الكاثوليك الفرنسيون والألمان جُلّ اهتمامهم لدعم المدارس الكاثوليكية وتقويتها، "إنّ المدارس هي الوسيلة الفضلى للوصول إلى النفوس والقلوب، والمستقبل لمن يمتلك المدارس "(161).
ب - البطريرك فيليب كماسيي
في اليوم الرابع والعشرين من كانون الاول 1905، توفي البطريرك ييافي عن عمر يناهز السبعين عاماً ودفن بجوار أسلافه· وخلفه البطريرك فيليب كماسيي(Camassei) (1919 - 1907)· عاصر كماسيي أحداث الحرب العالمية الأولى، فأُغلقت المدارس الفرنسية والإيطالية، وسُجِنَ عدد من كهنته ورهبانه· وأخيراً نفاه العثمانيون إلى الناصرة في 10/11/1917، فحلّ ضيفاً على الآباء الفرنسيسيين، وتابع من الناصرة الإشراف على رعايا البطريركية في شمالي فلسطين، وعيّن نائباً عنه في القدس في 24/11/1917 المنسنيور فرانسوا فيلينجر (François Fellinger) لرعاية طوائف وأديار بقية فلسطين وشرقي الأردن· وفي 3/11/1918، عاد البطريرك إلى القدس، وكان الكرسي الرسولي قد بعث من روما مساعداً له هو المنسينور لويس بارلسينا(Barlassina) في 28/10/1918· وبعد فترة وجيزة سافر البطريرك إلى روما ليأخذ قسطاً من الراحة لما عاناه من أحداث الحرب وليقوم بزيارة رسمية للفاتيكان· فأنعم عليه البابا بندكتوس الخامس عشر بالرتبة الكردينالية في 13/12/1918· وتوفي في روما في 18/1/1921، ودفن فيها(162).
جـ - البطريرك لويس بارلسينا
اعتلى العرش البطريركي الأورشليمي بعد كماسيي نائبه العام المنسنيور لويس بارلسينا (1920 - 1947)· وعاصر أحداث فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، فأولى جُلّ اهتمامه لترميم إرساليات البطريركية وبناء المدارس والكنائس· فأفتُتحَتْ رعايا ناعور (1924)، والخربة وعرجان وعنبه وصمد وكفرابيل (1926)، وأدر وجنين وبرقين (1928)، وصافوط (1933)، والمفرق (1941)(163)· وظهرت في عصر البطريرك بارلسينا (1927) بوادر الاحتجاج والمطالبة بتعريب أجهزة البطريركية وإداراتها، وبدأت هذه الظاهرة في رعية مادبا وهي كبرى رعايا البطريركية بشرق الأردن· وقاد حركة الاحتجاج مجموعة من رجال الرعية أطلقت على نفسها إسم >لجنة الإصلاح<· وبعثت بالعرائض للبطريرك والشخصيات المسيحية في الضفتين وأهم مطالبها: تعيين نائب بطريركي عربي في عمان ورئيس عربي للمعهد الإكليريكي وتوظيف معلمين محليين في مدارس البطريركية· واحتوت البطريركية هذه الظاهرة التي برزت بتأثير القضية العربية الأرثوذكسية التي دارت أحداثها في الحقبة عينها، واستطاع البطريرك أن يتعامل معها بكياسة ولبّى بعض مطالبها، فتمّ ذلك تدريجاً منذ أنْ توافرت العناصر المحلية الجديرة· فعيّن البطريرك نائباً عاماً له في عمان المنسنيور انطون زيتون سنة 1927، وخلفه المنسنيور منصور جلاّد سنة 1935، فالمنسنيور نعمة سمعان سنة 1940 حتى وفاته سنة 1981· وفي عصر خليفته البطريرك البرتو غورى (Alberto Gori)
1970 -1949 تمّ سيامة أسقفين عربيين في البطريركية هما المطران نعمة سمعان لمدينة عمان، والمطران حنا كلداني لمدينة الناصرة(164)· واستوى على العرش البطريركي بعد البطريرك غوري البطريرك يعقوب بلترتي (1970 - 1987).

horizontal rule


خـاتـمـة
في غضون نصف قرن استطاع المنسنيور فاليركا وخليفته المنسنيور براكّو تقوية الوجود الكاثوليكي في فلسطين والأردن، وإعادة صياغته بصورة جديدة فاعلة هي البطريركية اللاتينية الأورشليمية· ففاليركا هو مؤسس هذا الكيان البطريركي، وبراكّو هو مرسخّه ومثبته من خلال عشرات الرعايا والمدارس والجمعيات الرهبانية الكاثوليكية التي دعاها البطريركان للعمل في الأبرشية·
ويكمُن سر نجاح البطريركية اللاتينية في الوسط العربي المسيحي في التفات البطاركة إلى حاجات المؤمنين الروحية والثقافية والاجتماعية، التي وفرها البطاركة على الرغم من الظروف القاسية التي المّت بهم وبمرسليهم· فقد أولت البطريركية جُلّ عنايتها لما فيه رفعة مسيحيي الشرق· وراهن أولو الأمر في البطريركية في بداية وجودها على المرسلين الأجانب، وما أنْ تكوّن الإكليروس العربي حتى أخذ يتحمل مسؤولياته، فأضحت البطريركية في القرن العشرين أبرشية شرقية عربية، على الرغم من تسميتها >باللاتينية< التي لا تدل على عرق ما أو انتماء قومي، بل على الليتورجية المتّبعة في البطريركية أي الطقس اللاتيني الروماني، والطقس اللاتيني هو أوسع الليتورجيات الكاثوليكية انتشاراً في العالم·
عاش كهنة البطريركية وراهبات الوردية العربيات واقع رعاياهم وعشائرهم التي انحدروا منها، واختبروا ظروف المؤمنين الحياتية القاسية· فرافقوا الجماعات المسيحية في حلّها وترحالها، يقيمون الصلاة ويفتحون المدارس في أقصى القرى ومضارب العربان في البادية، مما قربّهم إلى أفئدة المؤمنين وحببهم إليهم· وأتقن الكهنة الأجانب في الإكليروس البطريركي اللغة العربية وحتى اللهجات القروية والبدوية، وتوصلوا إلى سبر أغوار العقلية والمشاعر العربية· فصار الوجود المسيحي الكاثوليكي في فلسطين والأردن شعبياً ذا صبغة محلية، بعد أن حُصِرَ لقرون طوال بالأماكن المقدسة وحولها في عصر الآباء الفرنسيسيين، الذين لا يمكن نكران فضلهم على الوجود المسيحي في الشرق· ولم تتعدَ البطريركية على صلاحيات الآباء الفرنسيسيين وحقوقهم التقليدية في الأماكن المقدسة التي ثبتها الستاتوكوو تجاه الطوائف المسيحية الأخرى في هذه الأماكن، بل وجدت البطريركية مجال عمل آخر بعيداً عن أجواء الأماكن المقدسة لتُكمّل عمل الرهبان وتضحياتهم عبر العصور· مرّت العلائق بين الحراسة والبطريركية بمراحل حرجة في البداية، وتمّ التفاهم والتنسيق بين الطرفين وتقاسم مجالات العمل المشتركة وتلافي الحساسية التي قد تنشأ بين المؤسستين. وجرى انتخاب شخصيتين فرنسيسيتين ليكونا بطريركيين على القدس وهما لودفكو بيافي (1889 - 1905) والبرتو غورى (1949 - 1970)، فتركا أثراً طيباً على الصلات البطريركية - الفرنسيسية·
ولكن ما هي أبعاد وجود كنيسة كاثوليكية لاتينية في الشرق؟ وما هي المبررات التاريخية لهذا الوجود؟ هذه التساؤلات وغيرها أُثيرت في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965)، وصدرت دراسات عديدة رداً على هذه التساؤلات، وعُرضَتْ أفكار متباينة تطرح تصورات متعددة لمستقبل الوجود الكاثوليكي في فلسطين· لا أود أن أضيف صفحة جديدة إلى أدب الاعتراض على وجود البطريركية اللاتينية والرد عليه، بل ألفت النظر إلى أنّ البطريركية اللاتينية هي المؤسّسة الكنسية الأكثر فاعلية وشعبية في الأردن وفلسطين، لما تقدمه من خدمات روحية واجتماعية وثقافية، بكنائسها وأديارها ومدارسها ورهبانها وكهنتها، مع أنّها ليست الطائفة الأكثر عدداً·
وما أن بزغ فجر القرن العشرين حتى كان الكرسي الرسولي البطرسي الروماني قد أحاط كنيسة مار يعقوب الأورشليمية بجسر قوي من الخرسانة الروحية ليحول دون انهيار البقية الباقية من شتات الكنائس· فإن الوجود اللاتيني في الشرق ليس هدفاً بحد ذاته بقدر ما هو وسيلة لخدمة كافة المسيحيين الكاثوليك وغيرهم· فقد غدت البطريركية اللاتينية بمؤسساتها وأديارها ومعاهدها منارة علم وتقدم وروحانية، إذْ بدأت تدبّ في أوصال الكنيسة نهضة روحية إنسانية لن تتوقف بإذن الله·
وطالما تطلّع مسيحيو الأردن وفلسطين إلى أن يقود أبناؤهم هذه الكنيسة ويتفانوا في خدمتها أسوة بغيرهم من شعوب العالم· وتحققت هذه الأمنية في البطريركية اللاتينية تدريجاً بكياسة وحكمة ويسر، فقد استوى على السدة البطريركية اليعقوبية الأورشليمية البطريرك مشيل الصبّاح سنة 1987 كنتيجة حتمية لتطور ناضج ومدروس· ولكن ما زال الإكليروس البطريركي يحوي بين صفوفه كهنة أبرشيين عرباً وأجانب ورهباناً من مختلف الجنسيات· وظلت فكرة المؤسّس البطريرك فاليركا قائمة وحيّة في نفوس أبنائه، الا وهي فكرة الإكليروس البطريركي المختلط ببعديه المحلي والدولي، والتمسك بواقع الكنيسة المحلية من جهة، ومن جهة أخرى عالمية كنيسة القدس >أم الكنائس<، بانفتاحها على كنائس العالم قاطبة لاحتوائها الأماكن المقدسة التي تُعدّ قِبْلَةً مسيحيةً وتراثاً روحياً إنسانياً عالمياً·
فقد تمّ في حضن هذه الكنيسة مفهوم الكثلكة أي الشمولية الجامعة، وانفتحت الأبواب واسعة لأبنائها للمشاركة في حياتها ونموها وعطائها· ولا يسعنا أخيراً إلا أن نذكر >نبوءة< للبطريرك براكّو، إن جاز القول، إذْ كتب إلى خوري الكرك اسكندر ماكانيو في عصر عثماني تكاد تكون فيه فكرته أقرب إلى >حلم بليلة صيف<: >هذا الشعب كن له محترماً وأحببه، فمنه سوف يخرج الكهنة والأساقفة والبطاركة وبُناة الكنائس<، وقد تم ذلك!(165 ).

الفهرست

غلاف الكتاب

horizontal rule